طيلة ربع قرن من ممارسة الكتابة لم يتعثر قلمي ولا أصيب بهبوط ضغط دم المداد الصارخ دوما بين الأنامل. ورغم الكوارث والأحداث الكبيرة التي غطيتها كنت دائما أضغط على نفسي وأستنجد بما في من جلد وأكتب.
هذه المرة، وأمام هول هذه الفاجعة التي خلفها زلزال مدمر على حين غرة، كدت أصاب بشلل الكتابة. وإذ أعترف لكم بهذا فأنا أعرف السبب: إنه القرب المكاني والوجداني من الفاجعة، فالقتلى مني وأنا منهم، ومن تحت الأنقاض إخوتي وأخواتي أنا الخجلان من معاناتهم كوني بين أسرتي التي لم يصب منها أحد، أنعم بما يبدو لهم فردوسا في هذه المحنة.
خجلت تلك الليلة وإلى اللحظة من عجزي حتى عن التنقل إلى عين المكان لأرفع حجرا من على جثة أو أسهم في إنقاذ ناج من الموت.
خجلت حتى من الاتصال بمن أعرف من أهل الحوز أو سكان تارودانت وورزازات وما جاورهما.
هل الرجال يبكون؟ ومتى يبكون؟ أنا بكيت بالدمع وتفطر هذا القلب الذي يحمل هم الإنسان فوق ما يحتمل.
كباقي المواطنين أرغمت على متابعة ما يحصل وحصلت معي أمنية واحدة يعلم خالقي أنها من صميم الفؤاد خرجت: أن أكون قادرا على التكفل بكل يتامى الزلزال على الأقل.
لكي أفهم أو على الأقل حتى لا أتجنى أو أظلم المسؤولين وضعت نفسي مكانهم فور حصول الكارثة، وبعد أن قلت كان الله في عونهم تطايرت من عقلي تساؤلات لا مرد لها:
ــ كم لدينا من هليكوبتر وما الذي أخرها إلى الغد كي تحلق فوق الجبال وترمي بالمساعدات الضرورية لمن بعين المكان في انتظار القدرة على الوصول إليهم؟
ــ ما بال رئيس الحكومة والناطف باسمها صامتان كل هذه الساعات الطويلة القاتلة؟ وهل سيعلنون المناطق التي ضربها الزلزال مناطق منكوبة؟ وماذا سيخسرون لو أعلنوها منكوبة؟
ــ ما سبب صمت الأحزاب وماذا ينتظرون؟
ــ لماذا لا أرى برلمانيي المناطق المنكوبة وكبار منتخبيها يحفرون الحجر بالأظافر ليخرجوا من تحت الأنقاض يئنون؟
ــ لماذا ونحن في بداية العقد الثالث من الألفية الثالثة لدينا مئات آلاف السكان في هذه المناطق لا يتوفرون حتى على طرق بسيطة ومساكنهم بنيت كلها من طين؟
ــ لماذا لا يتوفر سكان هذا الطرف الأعز من الوطن حتى على أبسط شروط الحياة الشبه طبيعية: لا سكن لا طرق لا سيارات إسعاف..وهم يحزنون؟
ــ كم مناطق منسية في هذا الوطن ولم نسيت إلى هذا الحد المخجل ومتى تتذكرها الدولة؟
ــ وطبعا راقبت قنوات القطب العمومي الذي لقب سابقا إعلاميا بـ"المتجمد"، فوجدته أصبح متحجرا بحيث لم يفلح في إيقاظه ــ في الوقت الذي يجب أن يستفيق ــ حتى زلزال بقوة قدرتها صحيفة الغارديان البريطانية بثلاثين قنبلة نووية.
ثم طافت في البال مقارنات بين المغرب وتركيا تحديدا: كيف تصرفوا مع الزلزال الأكثر تدميرا من زلزالنا وبم وعدوا وكيف حققوا وعودهم؟ ولم لا نكون مثلهم ليس فقط من خلال نجدة الضحايا وتطبيبهم ومواكبتهم ومدهم بالمال والطعام والدعم النفسي ولكن أيضا من خلال الجدول الزمني لبرنامج استعجالي لتعويضهم وإسكانهم.
خيم كابوس الفاجعة على العقل والوجدان إلى أن جاءني الأطباء الأبطال وأعادوا لي الأمل، هؤلاء الكواكب التي سطعت في سمائنا بعد أن خرجت من أحياء الفقر والبؤس والبساطة.
إنهم شرفاؤنا من أبنائنا في الداخل والخارج ممن لم ينتظروا أوامر رسمية ولا تعليمات فوقية ولا خضعوا لبيروقراطية مريضة، بل هبوا من كل مدن المغرب للقيام بالواجب تجاه إخوتهم المشردين في العراء أو الأموات في انتظار أغرب أوامر تتعلق بالدفن سمعتها، أو ممن يوجدون بين الحياة والموت تحت الأنقاض.
هؤلاء المغاربة الذين نهضوا لتسطير ملحمة حقيقية يتابعها العالم باندهاش هم الأطباء وهم الأمل وهم نقيض معادلة وأجندة التيئيس والتتفيه واللاجدوى التي يرعاها من لهم فيها مصلحة وحيدة: اجعلوا المغاربة يائسين من أي شيء إلى أن يصابوا بالشلل.
لكن هيهات هيهات..أحفاد المرابطين والموحدين، من الأمازيغ والعرب، نسل جبار لا يمكن لأي شيطان أن يهزمه أو إبليس أن يخزيه أو يشككه في قدرته على التحدي والفعل وقلب المعادلات.
فما القوة الكامنة وراء هذا الشعب؟ إنه الإيمان بالذات وبالتاريخ. فإذا كان الجيل الحالي يستلهم روح المسيرة الخضراء على الأقل فهناك ملاحم قبلها هي القوة الضاربة المحركة للقلوب والسواعد في الأزمنة الرديئة وحين الكربات.
معاركنا ضد الغزاة كوادي المخازن والزلاقة..إلى أنوال المجيدة وبعدها حرب التحرير من الاحتلال الفرنسي كلها تمدنا بطاقة عدم الاعتراف بالمستحيلات..هذا لا شك فيه.
إن شعبا بهذه المواصفات..يستحق نخبا أقوى واشرف وأشجع وأنظف من هذا الغثاء الجاثم على صدورنا.
إن وطنا يزخر بملايين من الشباب المواطن بإمكانه ــ لو حررت طاقاته وخلصت نوايا بناء وطن ــ لقادر على أن يجعل من معجزة سنغافوة ورواندا..تجربة للاستئناس فقط.
الأمل كله أن تتحول هبة التضامن الوطني التي نقرأ سطورها وفصولها بفرح ممزوج بدموع الحسرة على من قضوا، إلى طاقة خلاقة تتخطى صفحات الفاشلين التي كتبتها نخبنا المتخاذلة في السياسة والاقتصاد والتنمية وصون الشخصية المغربية الفذة.
لقد أدمنت نخبنا الفشل واستمرأت الريع في كل شيء، وتأبى الأحداث إلا أن تأتي متوالية لتفضحهم وتخبرهم بمسافات تخلفهم التاريخي عن منطق الزمن ولغة العصر ومفاهيم ديمقراطية الإنجاز.
آن الأوان وبسرعة لنفض غبار تخلف المتخلفين عن أعين وطن يقاوم ليبصر في الظلام، وحان وقت إيقاف العاجزين حيث هم فضلا عن محاسبتهم.
وكما يعطينا القدر فرصا للتصحيح، علينا أن نعي جيدا أن فرص التاريخ قليلة إن لم تكن شحيحة، فإما أن تغتنمها أو ابحث لنفسك عن مكان في مقبرة أرشيف الدنيا.