فعلها رجب طيب أردوغان مرة أخرى وفاز في انتخابات صعبة كانت اختبارا حقيقيا له ولحزبه.
قالوا عنه إنه يهدد الديمقراطية التركية بنزوعه للحكم الفردي فتخلى عن "ديكتاتوريته" المزعومة غربيا وذهب بخطى الواثق إلى الجولة الثانية وفاز على كليشدار أوغلو.
سيبقى أردوغان يحكم تركيا لخمس سنوات مقبلة. حق للرجل أن يمد رجليه في القصر الرئاسي العثماني الفخم ويواصل تطبيق سياساته التي ميزتها البراغماتية والمصلحة الوطنية واستقلالية القرار دوليا.
تنفس "سلطان"تركيا وحزبه الصعداء فيما كتم الغرب ــ الغيور على الديمقراطية يا عيني ــ كتم غيضه متحسرا على فرحة لم تتحقق و جاثوم على أنفاسه أصر أن يبقى نصف عقد آخر.
كان بوتين أول المهنئين لأردوغان بفوزه ولخص كل شيء حينما أعرب للرئيس التركي عن يقينه بأن اختيار الأتراك له مرة أخرى يدل على صواب سياساته الخارجية. بوتين بلا شك سعيد ببقاء حليف إقليمي كبير مثل اردوغان على رأس دولة محورية مثل تركيا.
أول المهنئين العرب كان أمير قطر، فيما ينتظر أن تتقاطر التهانيء بلغة الضاد على رجب طيب..ولو من باب المجاملة الدبلوماسية ورفع العتب، إذ ليس خافيا أن كثيرا من الأنظمة العربية ليست سمنا على عسل مع أردوغان "الإسلامي".
هناك أسئلة تفرض نفسها في هذه المناسبة:
لماذا اهتم العالم بانتخابات تركيا؟
بدا جليا أن العالم، سيما الغرب، كان شديد الاهتمام بانتخابات تركيا الرئاسية التي عرفت حرارة ونسب مشاركة غير مسبوقة عالميا. وقد اهتم حلف شمال الأطلسي بطريقته بهذا الحدث فسبقت استطلاعات الرأي المبشرة بسقوط اردوغان نتائج صناديق الاقتراع. الغرب سخر ترسانته الدعائية السوداء لصالح كليشدار أوغلو.
وليس سرا ان الغرب كان يمني النفس بطي صفحة تركيا اردوغان وتجربتها الدمقراطية والتنموية التي صارت مزعجة إلى حد أن السياسة الخارجية لأنقرة صارت لاعبا حاسما في النزاعات الدولية الكبرى مثل حرب روسيا على أوكرانيا.
وليس خافيا أيضا أن الغرب يخشى انتقال عدوى تجارب صندوق الاقتراع إلى الجوار العربي فتخرب الأجندات، إذ الغرب "الديمقراطي" يهمه بقاء الوضع السياسي ــ من الماء إلى الماء ــ متحجرا إلى الأبد. هذا التحجر يمنح الدوائر الغربية المرونة المطلوبة لرسم الخرائط وفرض السياسات التي تضمن استمرار مصالحها الحيوية إلى نهاية التاريخ.
لماذا يتعلق الأتراك بالرئيس أردوغان؟
تصويت غالبية الأتراك لصالح الاستمرارية ليس لأنهم ضد التغيير ولا لكونهم يحبون أردوغان ويموتون في "دباديبه". الأمر أعمق وأعقد من ذلك بكثير: قرر الوعي الجماعي للأتراك منح اردوغان ولاية أخرى لأنهم يعرفون تماما أن من مصلحتهم بقاؤه لخمس سنوات مقبلة للأسباب التالية:
ــ ليكون حائط ضد ما يمثله كليشدار والماكينة التي خلفه من تهديد للنسيج الوطني التركي متعدد الأعراق والنزعات، خصوصا أن حكم اردوغان أخمد العنف الذي عانى الأتراك ويلاته عقودا.
ــ أن يحول دون عودة العسكر إلى حراسة المعبد الأتاتوركي مرة أخرى عبر الانقلابات التي مثلت في السابق شبه رياضة وطنية لأصحاب الدبابات. ومازالت الذاكرة تحفظ جيدا ما حصل حينما حاول العسكر الانقلاب على الشرعية قبل سبع سنوات حينما خرج الشعب ومجموعات أمنية بصدور عارية وأسلحة خفيفة كانت كافية لاعتقال الانقلابيين وإفشال المؤامرة.
ــ أن يعمل على وضع دستور حقيقي لتركيا التي لم يسمح لها منذ قرن على الأقل بأن تصنع قانونها لنفسها، وما أبقيت عليه "دستوريا" كان من صنع الإنجليز...و "تدبيج" الأرمن.
ماهي خلاصات الدرس التركي؟
لعل أهم ما يمكن استخلاصه من التجربة التركية على عهد أردوغان من دروس يمكن إجمالها في عناوين بارزة:
النهوض الوطني ممكن كلما توفرت له شروط من أهمها وجود نخبة مؤمنة بمشروعها الوطني وقادرة على التضحية من أجله.
مشروع النهضة الوطنية لا حظ له في أي نجاح ما لم يجعل الإنسان هدفه الأول والأخير في كل سياساته، وقد حصل هذا في تركيا إذ يكفي أن نذكر أن أول بند في ميزانياتها مخصص للتعليم، ناهيك عن جودة الخدمات عموما والبنية التحتية الرهيبة التي صارت تنعم بها تركيا واتخذتها منطلقا إنتاجيا عظيما.
النهضة الوطنية القومية لا تقوم على أفكار الأجنبي ولا تعويل فيها على سواعد الغرباء، وقد صمم الأتراك نموذجهم التنموي بأنفسهم وفي تماش مع ثقافتهم الأصيلة.
النهضة الوطنية سياسيا وديموقراطيا ليست غيثا من السماء ينزل كلما اشتهيناه بل ديناميات تنتج تراكمات وقبلها تضحيات بالوقت والجهد وحتى الأرواح مع مشروع سياسي ثقافي مسنود بترسانة للتوعية والحشد والتثقيف.
صناعة الإنسان والاستثمار فيه ينتصب طريقا وحيدا للخروج من براثن التخلف، ولنا أن نقارن بكل موضوعية بين تركيا بداية هذا القرن وتركيا هذا الزمن.
في ظني أن ما حصل من عرض ديمقراطي مبهر في تركيا سيكون انطلاقة حقيقية لهذا البلد ليحجز مكانه عن جدارة بين كبار الكرة الأرضية.
حق لأردوغان أن يمد رجليه ولتركيا أن تفتخر بتجربتها السياسية/الانتخابية..حيث "خشونة يوك"...."قوالب....يوك".
www.achawari.com