وطني المغرب عاريا..”نتعامل أو لا نتعامل؟”..تلك هي القضية

أحمد الجَــــلالي

مسترخيا انتظرت سيارة الأجرة لتقلني إلى حي بدوار كبير ارتأت حكومة سابقة أن تسميه “مدينة” قبل أن يرزق الله أهله طول العمر لكي يروا بأمهات أعينهم هذا الدوار وهو يتحول بقدرة أم الوزارات إلى “عمالة”.ألف مبروك إذن للأهالي.

وصلت سيارة الأجرة فاندلقت فيها مثل سمكة كنت تنتظر من يرميها إلى الماء. حييت السائق وأخبرته بوجهتي. تحركت السيارة حوالي دقيقتين فتوقت السائق ليحمل سيدة ستينية جلست في المقعد الأمامي إلى جنبه.

ثم سار بنا قليلا وتوقت عند زبون ثالث. كان شرطيا شابا يبدو أنه غادر دوامه للتو. بدا لي ذلك من ارتخاء أعصابه وقسمات وجهه.

التفت إلي السائق وطلب مني إن كان ممكنا أن يوصل الشرطي إلى حيث يتجه أولا. قلت له: لا بأس.

ولما مرت برهة ولاحظت أن الجالس إلى جانبي لم يشكرني وتصرف كأن المفروض في وعلي وعلى أمثالي أن يقدموه في الخدمات ويتنازلوا له عن دورهم، قررت أن أستأنف الكلام فأضفت للسائق وإياك أعني يا جاري: ” إن كان الأخ متوجها للعمل فلتوصله قبلي إلى المفوضية أما إن كانت وجهته غير ذلك والعنوان الذي تحملني إليه قبله مكانيا فالأول بالأول…والمخزن في خدمة الشعب”.

فجأة، ارتدى وجه الجالس لصيقا بي مسحة من الجدية وبعض العبوس وعقب على كلامي: لا، الشرطة في خدمة الشعب”.

فتح لي مجالا أوسع للمحادثة فأضفت له: على القضاء في خدمة الشعب؟

سكت ولم يعقب وأبقى على بعض اكفهرار في محياه. سارت السيارة برتابة فكسرتها بجملة ختمت بها مشوار ثالث الزبناء في رحلة سيارة أجرة داخل أحياء قرية سميت مدينة ثم أصبحت عمالة: بصرف النظر عن التعابير والأدبيات..ففي الميدان تكون الكلمة الأخيرة الحاسمة للضمير.”

نزل الشرطي وقال للسائق دون أن ينظر إلى وجهي “الصبوح”: الله يعاون. دعا له بالعون ولم يسلك يده في جيبه ليدفع لسائق سيارة الأجرة أجره…ثم انصرف سالما غانما.

بعد أن تحرك السائق عائدا بي إلى الخلف خمنت أن هذا الزبون ربما يكون متعاقدا معه، ولذلك قد يكون الدفع منتظما نهاية كل شهر.

بفضول خفيف ورغبة في استطلاع الأمر سألت السائق ما إن كان متعاقدا مع الشرطي أو أن البوليس في هذه القرية التي أصبحت عمالة “يركبون اللهم صل على النبي..ببلاش”؟

قال لي غير مبال: كنتعاملوا معاهم أعمي..وتاهوما كيتعاملوا عنا.

علقت بسرعة: رأيت تعاملك معه وأفهم من التعامل المفترض “ديالهم” معكم أنها مقايضة..وأوضحت: يعني غض الطرف عن القانون.

فأجابني: ليس تماما، ولكن في الأمور “البسيطة” فقط أما الأمور الصعبة لا…”.

وصلت بعدها إلى حيث كنت متوجها ووصلت لحظة الأداء فقلت للسائق: عندي غير مية..تعامل معايا؟

ضحك حتى رأيت ضرس عقله وجاملني بهذه: علاش لا كلشي ديالك.

نفحته واجبه، أي أعطيت لصاحب سيارة الأجرة أجرته، ولما نظرت إليه في المرآة قبل أن أنزل لاحظت أنه كان يرقبني وقد ألبس وجهه كسوة مغايرة قرأت فيها عبارة: “واش هذا ماشي من المغريب ولا معارف والو ولا كيتسطا علي؟”  

أجبته في خاطري: “لا يا ولدي من قاع المغريب وعارف القراميد الزرقاء إلى أن كدت “أتسطى” لأني عاشرت الناس وجاني لهبال”..ومضيت أدندن رائعة “جمال” الغيوانية في خاطري.

إنها حكاية بسيطة، وهي واحدة من يوميات أي مواطن مغربي، تلخص حكاية علاقة ملتبسة تجمع بين المواطن والسلطة والمواطن إزاء أخيه المواطن.علاقة ملتبسة وقوية ومريبة منذ أن كنا وكانت.

والسلطة في هذا المقام لا تنحصر في البوليس فقط بل تتعداه إلى الدرك والقضاء وكل ذي صلاحيات رسمية ينظمها قانون، والإدارة عموما كإطار أوسع يحتضن ثقافة ومشكلة وأمراض ومأساة شعب منذ قرون.

ولأني أمقت التعميم، وذرئا لأي تأويل خطأ فالبوليسي بطل قصتي الصغيرة هاته ليس نموذجا يعمم ولا مقياسا لحكم جائر على جهاز له دوره المعتبر. كان “البطل” صورة واقعية فقط التقطتها عين صحافي خلق بعين لاقطة.

لن أعمم لأنني، ولحسن الحظ، عرفت كثيرا من موظفي الأمن برتب محترمة ومتدنية، أشهد الله أنهم يعيشون على العفاف والكفاف والاقتراض ويفضلون التقشف على إطعام أبنائهم لقمة من رشوة أو درهما من حراما.

نحن المواطنين والسلطة والإدارة نصلح مواضيع للسينما وورشات للتحليل النفسي ما بعد النظرية الفرويدية بلا شك. نحن معا مواد مختبرية معتبرة توفر كل شروط البحث العلمي في نظريات توليف المتناقضات وتناغم المفارقات والحب القهري والتسليم والتمرد والشكوى والصبر والنفاق والعشق والقدرية والمكتوب والحمد والشكر متلاصقين والنقمة والكفر متزاوجين.

ولأن الواقع مهما غلفنا عوراته وحاولنا التعايش معه يأبى إلا أن ينتصب أمامنا عاريا كما ولدته حياتنا المغربية فالعبرة بالنتيجة. ولقد كان من نتائج تركيبة إدارتنا مذ كانت أنها تحولت إلى آلة بيروقراطية جبارة تطحنك “بالقانون” وتسحقك بالنصوص التنظيمية والسلطات التقديرية للقابعين في مفاصل الإدارات كلها.

ولأن الواقع لا يرتفع فقد وصل أنين وصراخ الشعب المغربي تحت جنازير وأحذية الإدارة الغاشمة إلى الملك رئيس الدولة فخصص قبل سنوات خطابا تقريعيا لهذا الكائن الجهنمي المسمى إدارة.

وقد أحنت الإدارة بعد ذلك الخطاب الشهير رأسها عميقا كي تمر العاصفة ثم عادت حليمة إلى عاداتها اللئيمة وإلى قواعدها سالمة غانمة. وكأنك يا أبا زيد ما غزيت/غزوت.

ويعيش ملايين المغاربة حاليا على حلم جميل اسمه التغطية الصحية والسجل الموحد. ومختصره أن الدولة ستنقل إحدى عشر مليون حامل لبطاقة راميد إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لينعموا بالتطبيب ويعاملوا كأوادم.

لكن الإدارة لم تشرح للمغاربة كيف ستفعل ذلك ولا من أين ستأتي بالأموال لصندوق يئن تحت وطأة أزماته المالية ولا يفي حتى بأبسط حقوق منخرطيه. ولم تقل لنا الإدارة من أين ستأتي بالأطقم الطبية والممرضين لما يعادل عدد سكان ليبيا وتونس وموريتانيا مجتمعين؟

وحتى إن حصلت معجزة ما فلي اليقين أن عباقرة القالب والالتفاف والضمسة سوف يجدون ألف باب لكي لا يستفيد ملايين الحازقين من هذا الحق الطبيعي بسلاسة ويسر. وقد رشحت بوادر هذا اليقين المؤسف من تصريح رئيس الحكومة الذي قال ما معناه أن على أصحاب راميد أن يقنعوا الإدارة أنهم يستحقون الاستفادة من الضمان الاجتماعي..يا سلام، وهل يعني كونك تحمل “بطاقة راميد” أنك ميسور…مثلا؟

إن الأمر يشبه من يطلب منك الإدلاء بشهاد “الحياة” وهو يتحدث إليك مباشرة ويتفحص بطاقتك الشخصية ويحملق في وجهك المكدود. هكذا هو الأمر تماما.

وكلما تهت في دروب الإدارة والواقع المغربي وعندما تصطدم بالحقيقة كما هي بشعة بلا مساحيق، تعود أيها المواطن “الراميدي” إلى “حكمة الأولين” من الأجداد الذين خبروا الحياة على الطريقة المغربية لتنهل من تراثهم الواقعي المليء بـ”الحكمة والتجربة” وفنون “سلك ودور وتبرم” والأهم حكمة مول الطاكسي الذي أخبرني بكل برودة أنهم “كيتعاملوا”.

ولكي أصارحك عزيزي القارئ، فالداعي لك بواقع أجمل أو أقل بشاعة على الأقل إنسان فشل فشلا ذريعا في “فن التعامل” هذا. ولطالما ضاعت حقوقي كلها لأنني رفضت أن “أتعامل” وخسرت وظائف برواتب يسيل لها لعاب و “ريوك” القوم لأني رفضت “أن أتعامل”…وقبل ربع قرن نجحت في مباريات وظائف عمومية كثيرة وكان علي “أن أتعامل” وأذكر أن واحدا من تلك “التعاملات” كان قد حددت قيمته في خمسين ألف درهم عدا ونقدا.

وبالمقابل، شهدت على كثيرين كيف باعوا الذي خلفهم وأمامهم و “تعاملوا” لقاء وظيفة لعلهم شاخوا فيها إلى يومنا هذا أو تقاعدوا.

خذ نصيحة من صاحب “رأي لا يطاع” وكن مستعدا لتدفع ضريبتها ورأسك مرفوع إلى أن تلقى ربك في يوم لا “تعامل فيه” إلا من أتى الله بقلب سليم:

ــ لا “تتعامل” إذا كان جوهر القضية دوسا على القانون، ولتذهب المصلحة الآنية إلى صندوق الضمان الحقيقي في أعلى عليين.احتسب وانتظر.

ــ لا “تتعامل”، لأنك إن فعلت شجعت معرقلي الحياة وسيادة القانون وورثت وورطت الأجيال اللاحقة في براثن التخلف والانتحار الأخلاقي.

ــ لا “تتعامل” واصمد ولا تظن أبدا أن وحيد ضعيف، ولا عليك من الآخرين “المتعاملين” فأنت في النهاية وهم جميعهم لستم بخالدين فيها، ولتكن لك بصمة..وقفة أو موقف واحد قلت فيه “لا”..كلمة من حرفين قد تكون سبب نجاتك من الجحيم يوم نبحث عن الرصيد الحقيقي بوزن الذرة.. وقد لا نجده.

ــ لا “تتعامل” إن كنت ستصبح راشيا فاسدا، وإن صنعت ذلك فدود الأرض سيكون أطهر وأشرف وأفيد منك، فكيف ترضى أن تكون دودا وأنت من كرمك خالقك وحملك وذريتك في البر والبحر؟

ــ “لا تتعامل”،  ولكن قاتل من أجل حقك بنفس طويل ولا تستسلم، فلو علمت خوف وجبن الفاسدين للعنت لحظات ضعفك كلها.

ــ لا “تتعامل”.. من أجل عيون الوطن…لأنك إن “تعاملت” خربت بيديك البيت الوحيد الذي لا مسكن لنا غيره……….أي أنك ببساطة ستكون قد قضيت على المغرب.

بربكم جميعا “لا تتعاملوا”…بل كونوا أنقياء واعلموا الصالحات فقط…”..فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”.

نعم، يوم العرض سيوضع الشريط كله صوتا وصورة…أمام الله والرسول والمؤمنين. هل تصورتم المشهد؟ يا لهول الموقف.

 www.achawari.com

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد