ما بين “ستيفن هوكينج” ومصطفى المسناوي..الذكرى صفر لميلاد الزمن

أحمد الجَــلالي

من بين أسوأ التراكمات التي أسعى بما أوتيت من قوة إلى منع حصولها معي، بل أصنع ضدها ما يشبه المستحيل ومعجزات متوسطة كي لا تحدث: تراكم الديون والكتب التي تنتظر دورها للقراءة في رفوف مكتبتي.

للبعض أن يستغرب من هذا الكائن المولود في القرن الماضي والذي مازالت القراءة تعني لديه بالأساس الكتب الورقية.

نعم، الأمر كذلك، وأضيف إلى استغرابكم أني لا أقرأ الكتب أبدا في صيغة “بي دي إف” لأني كاتب وقراءة مجهودات الآخرين مجانا سرقة موصوف.

ومرة في سفر طويل عبر القطار دفع شابة فضولها لتسألني كيف أتحمل قراءة رواية عربية سميكة من قرابة ثلاثمائة صفحة، كانت بين يدي، وما الفائدة؟

أما عن “كيف أتحمل” فقد أجبتها بسؤال: ألا ترين أني أدخن فلم لم تستغربي تحملي النيكوتين واستغربت مني قراءتي مات الصفحات فقط؟. وعن “الفائدة من الأمر” التففت حول الجواب وسألتها كم قرأت في حياتها من كتاب؟ فاجأتني بكونها ــ عدا مقررات الدراسة ــ لم تقرأ أبدا أي كتاب لأنها”معندهاش الخاطر”.

ولما أخبرتني أنها مهندسة، قلت لها عكس ما أقصد “تبارك الله” وقلت في دواخلي “تعليقا شفويا” بالإنجليزية على النظام التعليمي الذي أنتج لنا “كوادر” من هذه الطينة.

لا أدري لم استخدم الإنجليزية بالذات في تعليقاتي الصامتة على أشخاص ومواقف محددة. الأن العربية والدارجة مجتمعتان لا تفيان بالغرض أم هناك سبب آخر.

أعود إلى مكتبتي، آخر كتاب جاء عليه الدور بعد أن انتظر ــ بطريقة لا تليق بمؤلفه وبي أنا كقارئ نهم ــ شهرا كاملا، كان كتاب “تاريخ موجز للزمان” بنسخته الإنجليزية لصاحبه “ستيفن هوكينج”.

ميزة هذا الكتاب أنه مكتوب بلغة خالية من التعقيدات العلمية الرياضية والفيزيائية وموجه للعموم وليس للأخصائيين في المجال. وقد حقق انتشارا خرافيا في بريطانيا والعالم وترجم إلى أربعين لغة.

ولكن غالبية العرب، وأقصد الذين يقرأون منهم، لا يعرفون عن هذا العقل الجبار أكثر مما قيل لهم عبر شاشات التلفزيون في برامج مترجمة تعرضت لسيرة “هوكينج”، والصورة التي رسخته عند الناس ليست كتبه ولا نظرياته وإنما صورة الرجل المعقد المصاب بأمراض تفرقت في غيره وتكالبت عليه وحده وهو بعد شاب.

وليس صدفة أن هذا العالم الفذ كان يشغل في جامعة “كمبريدج” العريقة كرسي أستاذ الرياضيات نفسه الذي شغله قبله العالم الأشهر إسحاق نيوتن.

أجد في مثل هذا الكتاب متعة متعددة الأبعاد. فهو يرتفع بالقاريء من سطح هذا الكوكب الأرضي النتن بشرور أهله إلى رحاب الكون الفسيح فيحقق للناس فرصة الطيران والتحليق بعيدا عن قوى أرضية ستبدو لك وأنت سابح عبر الزمن أضأل من قملة فوق جبل، وستكتشف تفاهة المتمسكين بالفناء.

ولأني أعرف يقينا أني لن أدرك أبدا زمن السياحة والسفر عبر الكواكب والمجرات فشكرا كثيرا لهوكينج الذي أخذني معه إلى “الحالة المدنية للزمن” ومكنني من شبه جواب عن أسئلة ظلت معلقة، كما إني ممتن له لأنه جعلني أفكر مليا في إمكانية انكماش الكون بحيث أرى مع غيري موتي أولا ثم ولادتي ثانيا.

بعيدا عن خليفة نيوتن فقد طاب لي قبل أيام إعادة قراءة كتاب به إهداء بخط يد مؤلفه الصديق المرحوم مصطفى المسناوي “يا أمة ضحكت”، عن سلسلة “شراع” الفقيدة لصاحبها الفقيد الكبير خالد مشبال.

عدت إلى تاريخ الإهداء فوجدت أنه كان قبل عشرين سنة وبضعة أشهر. تذكرت لقاءاتي الأولى بالمسناوي، ولقائي الأخير به صدفه بوزارة الاتصال.

المسناوي، الناقد الكبير والكاتب الساخر، مات خارج أرض الوطن بمصر، ومع غيابه غابت الكتابة الأنيقة المتمرسة من على صفحات جرائدنا المغربية.

تحدثنا كثيرا في ذلك اليوم حيث كان اللقاء الأخير. لسبب ما تمسك المرحوم ببقائي معه في مكتبه لأطول وقت. شربنا القهوة مرتين. وتحدثنا في قضايا مهنية وشخصية كثيرة. كان الراحل هو هو، وكانت قناعاته التي أعرف عنه سابقا قد زادت رسوخا.

لن أنس يوما وأنا في أصقاع بريطانيا ذلك الرقم الغريب الذي رن في هاتفي. ترددت قبل أن أفتح الخط. كان الرقم من الهند، نيودلهي، وكان المتحدث مصطفى المسناوي. سعدت كثيرا بأن رجلا في مقام أستاذي، وهو بالهند، يتذكرني وأنا في الطرف الآخر من الدنيا ويتصل بي.

لكم أفتقدك يا سي مصطفى، ولكم أترحم عليك. وأخبرك أخي وأنا في هذه الدنيا ما أزال أن الأمة العربية التي كتبت عنها في مؤلفك وعنوانا لمقالاتك الجميلة، ما تزال “تضحك عليها” الأمم، وأن ضحكها هي صار بكاء مرا، وليس كالبكاء فقط.

www.achawari.com

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد