إما استعادة القوة الناعمة للمغرب..أو التآكل التدريجي ثم الفناء

أحمــد الجــــلالي

لكل بلد قوته التي تميزه عن باقي الدول، كما لكل دولة نقاط ضعف قد تهوي بها تحت حوافر خيول الحضارات الجبارة.

والقوة ليست بالضرورة عسكرية أو اقتصادية، بل من القوة ما هو ناعم لا يكاد يرى بالعين ولكن تأثيره حاسم ويعول عليه.

بريطانيا مثلا، أم الأمبريالية والقوة العسكرية الاستعمارية التاريخية، تتوفر على تلك القوة الناعمة التي تسمى”الطريقة الإنجليزية” في حلحلة الأمور أو تسكينها أو الالتفاف عليها، ثم قلب الطاولة في نهاية اللعبة.

مصر، التي كانت، ولا أعني مصر السيسي قطعا، كان لها السطوة الثقافية والإعلامية والفنية، وهي قوتها الناعمة الضاربة لعقود في أطناب الرأي العام العربي.

قطر حاليا، والتي لم تك  شيئا يذكر قبل عقدين، تمتلك قوة ناعمة وخطيرة تسمى قناة الجزيرة، التي تقصف بها إقليميا ودوليا.

المغرب، بلدنا الذي يعنينا أكثر من غيره، يفقد تدريجيا تلك القوة الناعمة التي جعلته محورا دوليا في السابق، وتمثلت أسس تلك القوة في العناصر التالية:

ــ ثقافة مخضرمة مشكلة من روافد لا تجتمع في غيره بشريا وثقافيا وعرقيا ودينيا: عربي، أمازيغي، أندلسي، أفريقي، ويهودي.

ــ تدين يمتح من الشخصية المحلية تميزت على باقي المسلمين في كل شيء من اللباس وحتى الخط بالسمغ على اللوح الخشبي وقراءة القرآن الكريم

ــ كوكتيل فني بإيقاعات ساحرة توقف عندها مندهشا عباقرة الموسيقى واللحن

ــ معمار وفسيفساء لا يصدق يحدث الإدهاش والصدمة، إلى جانب مطبخ غني ومتنوع بمذاقاته وألوانه،

ــ نظام سياسي ملكي يستند إلى الدين والتاريخ والتعاقد الدستوري والسند الشعبي والمشروعية الوطنية، وسطي المقاربات وصلب في ساعة الجد والمقارعات

ــ ملك اسمه الحسن الثاني حير العقول ولعب أدوارا فيها من التحدي والقوة ما لم يأخذ حقه من التأريخ العلمي البحث

كل هذه الخصوصيات ــ للأسف ــ لم تعد في عصرنا الحالي معطى طبيعيا ثابتا ومضمونا، أي كمياه بحر أو نهر أو مياه جوفية مخزونها مستقر، بل صار التحدي الكوني يوشك أن يذهب بتميزنا ويخفيه بعد أن كان نقطة ارتكاز حقيقية لشخصيتنا المغربية وأفقنا بكل أبعاده.

مع الثورة الرقمية الجهنمية، موازاة مع صعود جيل آخر مختلف تماما، مبتور الارتباط بثقافته، بدأت تضمحل سمات الإنسان المغربي، أي بتعبير مؤلم: صار مسخ قبيح يحتل مكان وجهنا الحضاري الجميل.

إننا لا نقف ضد التطور، وسيكون من الجنون والتحجر الدعوة إلى الثبات كأصنام أمام ريح الصحاري والفيافي. لكن يا سادة هل من خير في “تقدم” يساير كل صرخة دون أسس تشد الأقدام بقوة إلى الأرض تفاديا للسقوط؟

لاحظوا أننا صرنا نعيش، بمعدل مرة في الأسبوع أحيانا، أحداثا وحوادث تافهة تصبح بقوة إعلام رديء مطارق على الأدمغة وحديث الألسن و أم القضايا. ومع هذا التسارع الموبوء لا نكاد نلتفت إلى حالتنا وما يهمنا حقا. إن الذاكرة المغربية مهدده بكل أنواع الزهاير، بل نتجه بملايين المغاربة كي يصبحوا  بذاكرة جمعية أضعف من ذاكرة السمك.

لنعد، بعد هذا التوصيف، إلى السؤال المنطلق: ما السبيل كي نستعيد قوتنا الناعمة كحضارة وشخصية مغربية؟

ــ نعتبر أن للإعلام قوة العامل الحاسم في هذه المعركة. لماذا لا يتوفر المغرب على قناة مثل الجزيرة؟ الأمر ليس مستحيلا بشرط أن يترك المشروع إلى أهل الحرفة، وتأخذ الدولة مسافة كافية. إن ما أنفق على دوزيم لوحدها لانتشالها من الإفلاس مرارا كاف لتمويل هذه المحطة.

ــ على أن إطلاق مشروع بهذه المواصفات لن ينجح إن لم يتم تطهير المجال الصحافي بالمغرب من الطفيليات التي خلقت وسقيت ومكن لها كي تحكم وتتسيد وتأمر وتنهى.

ــ المدرسة العمومية، مصنع الأجيال الحقيقي، لابد من رد الاعتبار لها، ولتقريب الصورة أكثر: أمامنا نموذج مرحلة بوكماخ الذي صنع عقول ومخيلات ملايين المغاربة بحس إبداعي ووطني وأخلاقي.

ــ حماية البادية المغربية من زحف المدينة. كانت المدن في السابق تشكو طوفان الهجرة القروية أما اليوم فقد صار لزاما الحيلولة دون إفساد مسخ المدينة أصالة البادية المغربية، المجال الحيوي الحقيقي للبلاد والعباد.

ــ المجتمع المدني يحتاج إعادة هيكلة: حل عدد كبير من التنظيمات الهلامية التي لا يدرى ما مبرر وجودها ولا من أين تأتي بالأموال ولا أين تصرفها. ونفس الشيء يقال عن النقابات والأحزاب، لا مناص من الفرز ولن يبق فوق شباك الغربال إلا من يستحق.

ــ إحداث مدرسة أو أكاديمية لتخريج السفراء وفق تكوين وضوابط تخدم المصالح الحيوية للأمة وليس منح المناصب في إطار “الوزيعة” والترضيات.

ــ أما أب الحلول وأم الضمانات كلها فهو القضاء الذي يقتضي ليس إصلاحا فحسب بل تطهيرا، وهو أمر لن يتأتى عبر الانتظار عقودا أخرى، وإنما بقرارات ملكية صارمة قادرة على إحداث الفرق واختصار الزمن المهدور.

بهذه الشروط المبسطة التي ستبدو مثالية للبعض وما هي بالمستحيلة في نظرنا، في حال توفرت الإرادة الكافية أفقيا وعموديا، سنستعيد المبادرة وننمي قوتنا الناعمة للبقاء على قيد البقاء، بين أمم بينا وإياها سنوات ضوئية.

عدا هذا، وهو شرط ملح، سنكون مهددين بالتآكل التدريجي..ثم الفناء.

www.achawari.com


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  

 

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد