جاء القبح.. ورأيت المغاربة يهربون من الوطن أفواجا

أحمد الجــــلالي

 

قبل حوالي عقدين إلا بضعة أشهر، شاءت الأقدار وميولي أن أنغمس حتى ذقني في مهنة الصحافة، بمعناها وشكلها الكلاسيكي الورقي.

ولدت مهنيا مع يومية الصباح، كما ساهمت في ولادة هذه الصحيفة، في ربيع سنة 2000.

 وبطريقة غير مخطط لها ألفيت نفسي مشطورا إنتاجيا بين عدد من الأقسام.كنت مسيسا بما يكفي ورجل ميدان بما يفي بالغرض ويزيد، وميالا حد الهوس لكل ما هو فني وثقافي عموما.

أعطيت الصحيفة بلا بخل وساهمت في انتشارها، مثلما أخذت منها ما استحققته عن جدارة، لا ريعا.

لم هذه المقدمة والعودة إلى البدايات التي تظل دائما ” جميلة”، رغم ما يمتزج بها من قذارات وحقارات ونجاسات مهنية وبشرية..في غير قليل من الأحيان؟؟

الذي قاد الأنامل إلى خط هذه العبارات، هو موضوع “الحراكة”. لقد كانت هذه القضية من بين الملفات التي قفزت باسمي إلى دوائر الضوء، عبر نشر عشرات الحلقات في شكل سلسلة، سمت بتوزيع الجريدة إلى سقف لم يكن منتظرا لدى “إيكوميديا”، وعرفت بابن البادية، الذي هو أنا، وقدراتي على التقصي والسرد والتعبير. كانت هموم الحراكة عندي “فوائد”. انتهى المجهود بنشري كتابا بيعت نسخه بالكامل.

كنت ظننت أن الموضوع صار جزءا من الماضي وأن الهجرة غير الشرعية صارت حكرا على أفارقة الصحراء والساحل، فإذا بالجيل الحالي من بني جلدتي يبعثها من ذكرياتها عبر الصور والفيديوهات المخيفة لهذا الهرب الجماعي الموثق من حضن وطن صار يقرص أبناءه في مناطق حساسة فيفرون منه فرارا.

لقد فجعتني صديقة افتراضية تعرف مهنتي وتتابع ما أنشر، حين سألتني: هل صحيح أن شيئا مأساويا سيحدث في المغرب؟ ثم لما حاولت دفع هذه الصور السوداء عن خيالها، زادت سؤالا ثانيا: هل تعرف يا أستاذ وتحاول أن تخفي عني الحقيقة؟

الحق أقول لم أخف عنها شيئا من باب المعلومة، بل أخفيت عنها الفزع الذي يصيبني حين أفكر في مستقبل هؤلاء الشباب وهؤلاء الأطفال، بملايينهم المملينة، القابعين في المعاهد والمدارس…أي مصير في انتظارهم؟

جيلنا المغتصب على مستويات كثيرة، المذبوح على شتى المسالخ، صاحب ما لا يحصى من الخيبات، صار أقرب بطن الأرض منه إلى وجهها…نحن راحلون فيا أسفي على ما ينتظر هذه الملايين الصاعدة من بنات وأبناء البلد.

تشير الإحصائيات إلى أن عدد المغادرين “حريكا” من المغاربة تضاعف بما يفوق 400 بالمائة مقارنة مع نفس الشهر من العام الفارط.

ماذا يعني هذا الرقم؟ يعني ببساطة قاتلة أن اليأس تضاعف 400 في المائة.

بعيدا عن حزن أمثال بنكيران و فرص الخلفي الهائلة، التي صارت مدعاة للسخرية، بدل أن تكون وسيلة تطمين رسمي.

بعيدا عن كل هذا الهراء، وجب على من مازالت بعقله بقيتا عقل وحمق أن يجلس أرضا ويفكر مليا في هذا الذي يحصل بتسارع في بلادنا:

سياسيا، وصلت السياسة بمعناها الحزبي ــ الحكومي حافة اللامعنى، وطبع الإخوان والرفاق مع العبث حد الهذيان.

اجتماعيا، من حراك إلى حراك، وما عدا المجهود الأمني لوقف الحرائق على مشارف “التبن”، لا شيء ذو بال لحل المعضلات من أساسها.

اقتصاديا، و دون خوض في النظريات الاقتصادية و “الكلام الكبير” المسكوك أصلا للضحك على العقول “الصغيرة”..نلخص الصورة  في : “مطامري عامرة و لولاد جيعانين”.

تعليميا، كل مهزلة تفرخ مهيزلة سرعان ما “تتعيش” وتصير أم المهازل..بعد أن بغررنا سفلة نخبنا.

إعلاميا، تلك حريرتنا التي جعلتنا نخجل بالإفصاح عن مهنتنا في كثير من المناسبات..المهنة “عرجت” و أمست يسوقها النيو “جرابيع”.

لا يخامرني أدنى شك أن كل هذا الذي يصير وبهذه السرعة ليس من الصدفة في شيء هي مقدمات لأمور نسعى الله لطفه فيها، تحاك ضد هذا المغرب..البلد الذي يتجاور فيه القبح كل القبح مع الجمال..كل الجمال.

عندما أعلن الملك فشل النموذج التنموي في ذلك الخطاب التاريخي كدت أشرح في مقال سابق حينها دلالات هذا الإقرار. لم أفعل لأني ظننت أن الأمر لا يتطلب توضيحا لأنه واضح، ولم اكتب شيئا لأني قلت لنفسي الأمارة بالأمل إن الملك يريد أن يقرع الأجراس كي يستفيق من عليهم أن يستيقظوا.

اليوم، وأنا أرى القبح كله يهاجم وطني، وأرى أبناء وطني يفرون من وطني أفواجا، و أرى ملك الموت يجرجر الأرواح بين شط وشط..الآن فهمت معنى فشل النموذج التنموي و مدلول فشل النخب.

الفهم الذي استقر عليه عقلي: “كلشي خاصو يتهدم ويتعاود من الأول”.

كيف؟

محاولة الجواب، في المقبل من لافتات “رصي راسك”.

 www.achawari.com

 

 

  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد