أحمد الجَـــــلالي
قفلت خمسين حولا قبل أيام وقد ظننت أني خلال نصف قرن من "محاولة حياة" جادة ،بدل عيش وكفى، قد فهمت كثيرا من التاريخ والجغرافيا وعلوم الطبيعة واللغات، وغير قليل من السياسة، بحكم قضائي سنوات طويلة في أسلاك الدراسة بمدارس ومعاهد وجامعات الحكومة.
ولكن الحزب الحاكم/الأغلبي مشكورا، وبفضل عباقرته، قد ساعدوني ــ مشكورين ــ والسواد الأعظم من أبناء شعبي على فهم الذات والعودة إلى الحكمة الإغريقية "إعرف نفسك بنفسك، أيها الإنسان".
لقد حاولت قبل عقدين ونيف أن أنقب في ذاتي الفردية والجماعية، واستعنت في ذلك السبيل اللذيذ والشاق بالشعر والنثر وبكتاب "العودة إلى الذات" للفيلسوف المظلوم علي شريعتي.
غير أن المجهود الأكاديمي لم يسفر عن نتائج مرضية حد الامتلاء بل ظل بداخلي عطش مرضي إلى فهم الذات وحسم المواقف معها وإزاءها، وتاليا استمرت معاناتي القاسية تلك.
ولكن الرؤوس الكبيرة في الحزب الحاكم، وبهد نقصد حزب التجمع الوطني للأحرار" المعروف اختصارا بالـ"إيريني"، أسدت لوعيي بذاتي خدمة لا تقدر بثمن كل محروقات أخنوش خلال العقد الأخير.
فيلسوف كبير في الحزب وصفني مع ملايين المغاربة بالمضاويخ. ومن فرط تبلد حسي السياسي والسوسيولوجي لم أفطن لقوة خطابه والاسترشاد به لفهم حالتي سوى متأخرا جدا.
ومع ذلك سعد كثيرا بنداء بوسعيد وبحثت عميقا في أعماق مخي لأجد أني فعلا أعاني ضوخة أزلية أقدم أعراضها باختصار علمي شديد للأطباء من متابعي عمودي المسمى "رصي راسك":
ــ منذ طفولتي المبكرة كنت أمارس هواية الشرود المزمن عن القطيع فإذا اتجه شمالا أقتفي طريق الجنوب..وهذه مصيبة في خد ذاتها.
ــ منذ وعيي البدائي تهت في كل الفيافي عن السرب ولم يطربني تغريده فصنعت لنفسي أدواتي الموسيقية من الطبيعة وعزفت لنفسي ولمن حولي بالكلمة واللحن نوتات شاردة وشاذة، حسب السلم الموسيقي للسرب والقطيع المحترمين..وهذه من أصعب أنواع الضوخات.
ــ كلما رأيت أسراب الانتهازيين تتكالب على "طموع الدنيا الفانية" تحسست مشاعري وقيمي الإنسانية كي لا أفقدها أو على الأصح كي لا أفقدها كلها، وفيما كانت أسراب عباد الدرهم تروح بطانا زاد تصوفي وزهدي في كل الفانيات وضحكت كأي أحمق من هؤلاء المجانين العابرين درب الفناء..وهذه أيضا من الأعراض الخطيرة التي نبهني إليها سي بوسعيد.
أبداولم تقف أفضال الحزب الحاكم الغانم علي عند هذا الباب، فقد رحمني ربي بالاستماع إلى زعيمهم العزيز أخنوش وهو يبشرنا كشعب بإعادة التربية...من إيطاليا أي بلاد موسيليني.
ولأني بدوي "عبيط" فقد فاتني في حينه إدراك مرامي هذا السياسي المقاصدي واعتبرتها زلة لسان مواطن أمازيغي/عربي مفرنس..ومرت الشهور تباعا إلى أن أدركتني صحوتي فسألت نفسي: ماذا إن كانت تنقصني التربية فعلا؟
هذا السؤال الذي زلزل كياني وهز وجداني هزا كان الجواب عنه ــ للأسف ــ وبعد تمحيص هو "نعم".
وبعد اشتغال قاسي على سلوكي وكلامي وتصرفاتي أعترف لكم أن عزيز كان على حق وأني فعلا تنقصني كثير من "الترابي" وهذه أدلتي الموثقة يا سادة يا كرام:
ــ لا أتوفر على موهبة النفاق والتزلف ولحس الأحذية ولعق الحوافر من أجل تسلق سريع وموفق لكل السلالم الوظيفية والمهنية..ولهذا السبب وبعد كفاح عقود أجدني في أسفل سافلي السلم الاجتماعي والمالي.
ــ لم أتلق تربية صحيحة في باب معرفة من أين تؤكل الأكتاف و"العنكرات" والأفخاذ والضلوع وباقي مساحات كل اسقيطة، ومن فرط تخلفي التربوي هذا كنت وما أزال كل "الهمزات" التي تأتي إلى قدمي زاحفة مجرد "سقط متاع" وهي الحجة الكافية لخصومي ومنقدي على أنني غبي وغير ذي أخلاق سوق...نعم أقر أنكم صادقون.
ــ أفتقر فقرا مدقعا لأدب وأخلاقيات التعامل داخل بورصة الوطن ، وفيما جنى تجار الوطنية والدفاع عن حوزة المغرب ثروات لأنهم "أولاد ناس" بقيت أنا كالمجذوب منتشيا مجانا بنصوصي الحارقة التي ألقيت بهما بخورا روحانية في مبخرة تراب بلادي، وبينما راكم "المقاليع" الأرصدة متعت أنفي وكل حواسي برائحة تراب الوطن وعبق تاريخه وذبت عشقا فيه وتمنيت من ربي أن يختم لي بموت شريف في طريق الدفاع عن الأرض والعرض.
ــ والدليل الآخر على فشل كل المقررات التربوية في تهذيبي أن علامتي في فن "تامحزوبيت" ظلت صفر على الشمال رغم تقدمي في السن..والنضج بالمحصلة الافتراضية. لم أعامل الزعماء بما يليق من أدب الخضوع، وفشلت في سك التعابير الشفوية والمكتوبة المناسبة لترطيب القلوب علي والجيوب.
وقبل يومين فقط أمطرت سماء الحزب الحاكم علي وعليكم بلا شك شآبيب النقد البناء وصالح الوصف وجميل الدعاء.
واليوم اكتشفت أن حزبنا الأغلبي لا يتوفر فقط على الزعماء والعلماء والصالحين مقبولي المناجاة والدعاء، وفي مقدمة ركبهم ولي الله راشيد الطالبي العلمي..تأملوا جمالية وروحانية الإسم الثلاثي لمولانا: رشيد زائد ألف للتميز عن خلق الله وطالبي بعنى شرف طلب العلم "وعلمي" فوقهما.
فقد تفضل مولانا راشيد ووصف قرابة مليوني مغربي عن لهم ألا يخرجوا للشارع ولا يرهقوا قوى الأمن وأن يقوا أنفسهم وأهليهم حجيم حرارة هذه الأيام ففكروا ودبروا وقرروا إطلاق "هاشطاك" يقول للأسعار أن تخفض ولرئيس الحكومة أن "يرحل"..الطالبي سمى هذه الشريحة من المغاربة "مرضى" ولكن غلبت رحمة قلبه الرقيق غضبه فدعا لهم بالشفاء.
وبما أني بدأت تعلم عندم الاستخفاف بكل ما يصدر عن الرؤوس الكبيرة لحزب أخنوش..وحزب عصمان سابقا...للتاريخ..فقد أخذت كلام الطالبي على محمل غاية في الجدية، واعتبرت نفسي ضمن الموصوفين عند جنابه بالمرضى..وقلت آمييييين طويلة بعد دعائه للمعنيين بالشفاء.
أعرف أني أعاني أمراضا كباقي خلق الله ومنها المزمن والعابر والوراثي وكلها بحمد الله إما هزمتها أو تعايشت معها بفضل الله أولا وحليب الأم ثانيا والمنشأ البدوي والغذاء الطبيعي ولا فضل في هذا الأمر علي لأي مستشفى أو مستوصف مغربي مذ خلقت وإلى اليوم..والرعاية الطبية الوحيدة التي تلقيتها طيلة حياتي كانت مرتين في بلاد العجم ومرتين بأرض الوطن لكن من حر مالي ومكنون جيبي.
ومع هذه الصلابة المناعية التي أبشركم بها فلست خارقا، والحق أن أمراضي التي نبهني إليها طيب الذكر الطالبي العلمي كثيرة جدا، ويهمني إطلاعكم على أشدها خطورة:
ــ أخوكم مصاب بداء التسامح وهو دليل على أن منطقة تخزين طاقة الحقد بقلبي خربة معطلة...وهذا وضع قد يتطلب عملية معقدة..يا ساتر.
ــ أعاني نقصا شديدا في كلسيوم ثالث أوكسيد التصديق..والدليل أني لم أومن يوما بالخطاب السياسي والحكومي واعتبرت أصوات الزعماء جزءا من الضجيج الذي يحدث بمذياعي عندما تتداخل الذبذبات.
ــ أعاني حساسية مفرطة تجاه الكذب والتحايل والمكر وأعجز عن إخفاء احتقاري لكل المدلسين والنصابين والأفاكين من أبناء وبنات القاف طرا.
ــ تعتريني نوبات هستيرية عبارة عن صرع ثائر إزاء كل خدش للكرامة أو استبداء أو استقواء بسلطة أو تجبر من أي مخلوق كيفما كان وضعه أو نسبه أو انتماؤه...وإن عجزت عن رد الفعل المناسب في اللحظة المناسبة أختصره في خيالي إلى نطفة سقطت من فرج أمه وعلقت بسروالها كبقعة لسائل داكن صغيرة رميت معه إلى أقرب سطل مليء بالماء ومسحت..وبالتالي أعيده للعدم وأتصور العالم ارتاح من شكله. وفي طفولتي ياما نصبت المشانق لوجوه كثيرة أو أطلقت عليهم البارود من "بارودة" خالي بنعيسى رحمه الله....ثم نمت في سلام..
ــ أقاسي كثيرا من تبعات علل من كل لون أراها أختاما على وجوه غلابا ومقهورين ومرضى لا يجدون حبة الأسبرين، وهم بالملايين في وطن تحته وفوقه ثروات لا تتوفر على نصفها أو ربعها بلدان تصنف من العالم الأول.
ــ أعاني من ارتفاع منسوب الضغط بسبب الظلم الظاهر في الشوارع والإدارات والمقنع في شكل قوانين وبنود وبيروقراطيات تعقد حياة الناس وتقهرهم..وأعاني أكثر من ارتفاع منسوب الأفكار ممكنة التنفيذ لعلاج هذه الآفات..أفكار كلما نزلت بها إلى ساحة من ساحات العمل..وقفت كل كلاب الأرض ضدي لتنهشني..فأرغم على الرحيل وأتركها خلفي تعوي.
نعم يا سادة الحزب الأغلبي أنا مريض وضايخ وقليل الترابي وأعلم يقينا أني محكوم علي وعلى أمثالي بالرسوب مسبقا في اختبارات ولوج أعشاش نعمائكم..
نعم يا أساطين الحزب الحاكم نحن فعلا ملايين المرضى من عديمي التربية والأخلاق من الموتورين مشدودي الأعصاب فاقدي كل شيء ما عدا منطقة وحيدة فينا ظلت سليمة توجد بين الرئتين إلى الأسفل قليلا تسمى "صميم الفؤاد" فيها يسكن حب الوطن الباقي..والأمل المقيم أبدا في غد أجمل .
نعم يا أيتها الشلة المرفهة المنعمة..نعم أيها الملأ، مصوا دماءنا وكلوا خبزنا واكثروا لنا من مواعظ عدم التفريط في نعمة الجوع والخضوع..هذا دوركم وذاك حقنا عليكم.
نعم، أنتم الحكومة المنغمة ولكم الحل والعقد ولنا الأمراض والعقد..نحن مرضى بالوراثة فلا تتعبوا الميزانية في توفير الطبيب و الدواء لنا...نحن مرضى بكم...ارحلوا كي نشفى.
www.achawari.com