حصريا..أسرار “قبيلة الجن الأسود” التي ضربت تلميذات دار الكداري

 أحمد الجَــلالي 

في أقصى الجنوب الشرقي للنرويج توجد مدينة صغيرة يحيط بها نهر اسمه “بهت” وغابات وطيور نادرة، حسب تقارير علمية فأهلها وحيواناتها، وبكل المقاييس، أسعد المخلوقات على وجه الأرض.. فما اسم هذه المدينة؟

ملحوظة: من يقدم الإجابة الصحيحة سيتكفل موقع الشوارع هذا بمنح صاحبه تذكرة رحلة سياسية ذهابا وإيابا مع الإقامة والأكل والحق في فنجاني قهوة يوميا مع توفير وسيلة النقل.وستكون وجهتكم السياسية هذه إلى “دار الكداري”، التي يترأس جماعتها النائب المدعو العيدودي، المعروف إعلاميا ــ هاد ليامات ــ ببرلماني كشة هشة بشة عشة رشة..

انتهت الفزورة النرويجية. مرحبا بكم في دار الكداري، أو اخميس ارميلة أو دار لغباري..كما تشاؤون يا سادة يا كرام، فهنا الوفرة لا تخطئها العين ، سيما في الغبار صيفا والغيس شتاء حتى  لقبت هذه البلدة التي وجدت من لا يستحي فسماها مدينة لقبت بالخميس الأسود نظرا لسواد التربة لما تمتزج بماء الأمطار وهات يا برطيط.

ومع هذا فبحكم الأمر الواقع الحائز لقوة المكتوب المقضي به فهي مدينة “بزز”، وهي بلدية أيضا على الورق وعلى يافطات صدئة في مداخلها.

وقد سميت دار الكداري نسبة إلى آل الكداري، المتحدر من دوار لكدادرة، وهو إقطاعي تليد تحكم هو ونسله تاريخيا في كل ما يدب على هذه الأرض، ولم يكن مستغربا أن تسمى باسمه فصارت “داره” حقا، وصار الآمر الناهي فيها.

ولمن كان له فضول “سياحي” فلن يضل طريقه للوصول إلى تلك الدار التي ماتزال جدرانها المتينة تقاوم عاديات الزمن وتقلبات الوقت.

وليست هناك أحداث جميلة ترتبط بمجد ما لهذه البلدة، اللهم أخبار الكوارث دوريا وعلى رأسها الفيضانات التي طالما ضربت المنطقة وصيرتها محيطا متلاطما..ويا للعجب ولا مرة أعلنوها منطقة منكوبة، علما أن من حق أهاليها لو توفر لهم بعض الوعي وزال عنهم ما تبقى من خوف موروث من أزمنة الإقطاع لتكتلوا وشكلوا تنظيما مدنيا وطالبوا الدولة بالتعويض المجزي عن زمن القحط والطوفان معا.

ويبدو اليوم أن هذه البلدة الميتا قد أرادت أن تنفض عن نفسها غبار اللامبالاة وتقفز إلى واجهة الأحداث الوطنية فلم يسعفها حظها في إنجاز علمي أو رياضي ولأنه حظ عاثر فقد ضرب موعده مجددا مع الكوارث.

فبنعمة الانترنت فقط ومنصات التواصل بالصوت والصورة علم المغاربة بم حصل هذه الأيام في دار الكداري: ذلك أن عشرات التلميذات ــ وليس التلاميذ ــ وبمؤسسات تعليمية مختلفة، أصبن بانهيار في وقت متزامن وتم نقلهم في ظروف سيئة وفي يوم شديد الحر إلى مستشفى سيدي قاسم.

وطبعا، لأنه مجرد اخميس “ارميلة” فلم تهرع لا دوزيم ولا غيرها من إعلام القطب القطب الرسمي المتجمد جدا.وكانت العهدة والبركة في الهواتف المحمولة وبعض المواقع الرقمية ذات نفس إعلام القرب.

الغريب هو أن تصاب الإناث دون الذكور.والأغرب هو الصمت الرسمي والجهوي لا على صعيد السلطات الإدارية ولا التعليمية ولا الصحية.

لو كانت المصابات استرجعن عافيتهم وعدن في اليوم التالي إلى فصول الدراسة لانتهب القصة وطواها النسيان بعد أن يكون محللو المقاهي قد قتلوها تحليلا وبحثا وتأويلا.

لكن القصة لم تنته بعد. والفيديوهات الواردة تقول إن المصابات لم يتعافين وهن مازلن في وضع سيء سيما في دوار عمارات/القضية. ووفق شهادات قريبات لهن فلم يتلقين علاجا بسيدي قاسم ولا شخصت حالاتهن وكل ما حصل أن أوامر صدرت بإخلاء المستشفى الجهوي منهن.

وقد عادت التلميذات إلى دواويرهن وجاء الدور على الفقهاء والرقاة للقيام بدورهم. وما يغذي اللجوء إلى هذه الحلول سببان على الأقل: لأن وزارة الصحة في مثل هذه المناطق المنسية آخر ما يمكن التعويل عليه، ولأن شائعات راجت بالبلدة أولت ما حصل على أن جنيا طاف في اللحظة نفسها على تلميذات “عشرين غشت” و “جبل الشيخ” فصرعهن.

ولا يجب أن يبدو الأمر مستغربا لدى بعضكم فنحن لسنا في تلك البلدة النرويجية التي بدأنا بها حديثنا بل في قلب بني حسن حيث الجهل، مرفوقا بقلة ذات اليد وغياب الحيلة، لا يمكن لآهالي المصابات أن يتفرجوا وحسب على فلذات أكبادهم دون فعل أي شيء.

تربطني بدار الكداري ذكريات الطفولة والخبز. فقد كان والدي رحمه الله أصغر محظوظ اختارته الأقدار عبر القرعة ليستفيد من قرابة عشرين هكتار أرضا زراعية منحها المرحوم محمد الخامس للمواطنين هناك، فلحم أكتفي كما يقول أجدادنا من من خيرات هذه الأرض، وجزء من ثقافتي الشعبية مستمد منها ومن ضفاف نهر سبو على مرمى حجر من علال التازي.

وبعض الأصدقاء الأجانب الذين زاروني بهمها معا أعجبوا بنهري سبو وبهت وبالخضرة والوفرة. صديق بريطاني عزيز وصل به الإعجاب درجة أن فكر في الاستقرار بالمغرب بمنطقة الغرب هذه، وصديق أمريكي عزيز بقيت ذكرياتها معه أينما ارتحل وحين تواصلنا بداية أيام كورونا عاد إلى الوراء ووصف تلك الأيام بكونها “المرة الوحيدة في حياتي التي شعرت فيها بأنني معتنى بي كليا بحيث لم يبق لي أي شكل اهتم فيه بحالي” وعلق على بيتنا القروي الطيني بأنه “تشرفت بقضاء أيام فيه وهو عندي أجمل من كل قصور الدنيا”.

وقد قدر لي أن أجتاز بنجاح الامتحان النهائي للشهادة الابتدائية ــ أيام العزـ قبل ثلاثة عقود ونصف أويزيد. كان ذلك في مدرسة “جبل الشيخ” التي لمت مئات التلاميذ من كل فرعيات النيابة في يوم صيفي رمضاني عاصف بغبار يلفح الخدين ويستوطن العينين وينقص من حدتي السمع والبصر. وفي نهاية يوم متعب صادف سوق الخميس “أعدت الاعتبار لنفسي” بكيلوغرام مشمش مازالت لذته تحت اللسان.

أمام ما يحصل اليوم في “خميس” اشتهر سابقا بتينه ونعنعه ذي الصيت الوطني وشمندره ذي الجودة العالمية، فصار اليوم “خميسا أسود”..يصبح الحنين إلى الماضي ملاذا للهروب مؤقتا من كوابيس الحاضر..فمعذرة عن هذا “الفلاش باك” اللاإرادي.

يشكو الأهالي اليوم بالصوت والصوة والوجه المكشوف من غياب للمسؤولين الذين جربوهم عقودا من مختلف الأطياف والأحقاب والأحزاب والألوان…والنتيجة واحدة: لا شيء..

وستظل هذه البلدة التي لا تعرف ماذا ستصنع ببناتها المصابات بأعراض غريبة تشكو لله وحده حالها. وسواء هنا أو في أي مكان بالمغرب يشبه هذا الواقع فليس بيد الغلابى حيلة. يطلبون منهم أن يصوتوا فيصوتون، ويطلبون منهم أن يلقحوا فيعرون أكتافهم للإبر. يطلبون منهم “الانخراط” في أي “مسلسل وطني” فيقولون سمعنا وأطعنا..ولكن حينما ينكبون لا أحد يسمعهم بله أن يطيعهم…وهل يُطاع مغلوب على أمره؟

يقف على مدخل دار الكداري مصنع سكر قديم ظل أصحابه يراكمون الملايير وظلت أسعار مادة السكر ترتفع فيما يبدو “لوزين” كأبي هول معدني غاضب ينفث في الأجهزة التنفسية للناس بلاويه وغباره المهلك للأبدان..ومع ذلك، يبحث الناس هنا عن “قوالب السكر” من أجل المناسبات والأعراس..إنهم مصابون بداء الفرح وعشق حلاوة الحياة رغم المنغصات.

في المدخل الشرقي للبلدة، على يمينك تمعن جيدا فسوف ترى دارا قديمة مهملة..تلك هي دار الكداري الذي ذهب إلى لقاء ربه واقتسم الورثة ثرواته وترقوا في سلاليم المجتمع..فيما غير بعيد عنها كانت تدرس تلميذات كادحات هن اليوم بحاجة للرعاية وإلى من يقوم معهن بأدنى واجبات المواطنة الغائبة: العلاج يا عالم..فهؤلاء لسن من نسل الكداري ومن على شاكلته..هؤلاء فقيرات أبناء فقراء وربما أجدادهم استغلوا مياومين أو بالخمس في مزارع المحظوظين في زمن الغفلة المغربي الغابر وهن يصارعن المرض في مغرب الجحود الحكومي.

في الطرف الآخر من البلدة تقف قنطرة تحتها واد جاف، وقبلها بأمتار مدارة احتار في فهمها المهندسون والطلبة والفلاحون والفلاسفة..تحيط بها القاذورات حتى العنق..دعوني أسلكها مع الكمامة لأقطع بضع كيلومترات قبل الوصول إلى المقبرة حيت يرقد في سلام من لن أفي دينهما: أمي وأبي.

رحمنا الله جميعا..أمواتا وأحياء.

www.achawari.com

 

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد