الصحراء المغربية..الاعتراف الأمريكي..التطبيع: شرح ملح

أحمد الجــلالي

لم ولن أخفي انحيازي إلى الحق الفلسطيني والإنساني، مثلما لن أحيد عن معاداتي للعنصرية والصهيونية والإجرام بكل صنوفه.

وبنفس القدر، لم ولن أغير موقفي القتالي من أجل وحده بلادي الترابية من سبتة ومليلية المحتلتين إلى تندوف المغربية أصلا.

هذا لكي تكون الأمور واضحة. وما بين هذين الموضوعين مساحات حرة للسجال والنقاش والاختلاف المطلوب والمستحب.

قضية الساعة ليست قضية ساعة فقط بل حدث عالمي بكل المقاييس: الاعتراف الأمريكاني الصريح، ولأول مرة، بسيادة المغرب على كامل صحرائه. إنه بداية عملية لحل نزاع قارب نصف قرن،وبينه وبين عمر القضية الفلسطينية عقدان فقط. فلسطين أرضها محتلة من قبل قوة غاشمة وشعبها يقتل طيلة سبعة عقود أمام عالم يتفرج، والمغرب ترابه الوطني رهن مؤامرة دولية وإقليمية ظل لوحدة يواجهها بالدماء والمال والرجال..كان الثمن باهظا جدا من عمر تنميتنا بناء وطننا وتضحيات ملايين المغاربة.

لقد توالت الأحداث خلال السنتين الأخيرتين بشكل كان يشي أن شيئا كبيرا سيحصل. وقد حصل بالأمس حين أعلنت إدراة ترامب قبيل رحيله عن البيت الأبيض ــ في ما يشبه رد الدين التاريخي ــ سيادة المغرب على صحرائه كلها.

هذا القرار الأمريكي، سياسيا على الأقل، وبصرف النظر عما قد يسير فيه الرئيس بايدن لاحقا، مكسب سياسي ممهد لقرار لصالح المغرب لمجلس الأمن وباقي القوى العظمى المؤثرة في المستقبل القريب.

وهو قرار/انعطافة بكل المقاييس لم يتأت بين عشية وضحاها بل بلا شك كان ثمرة لجهود مضنية للدولة المغربية بكل ثقلها وعلاقاتها الظاهرة والخفية، فضلا عن قوة عدالة القضية نفسها.

وعلى الأرض، سيكون لواشنطن قنصلية بالداخلة، ليس لمجرد التوفر على بناية فوقها علم بل للاستثمار بما يعنيه سياسيا كون الأمر قد حسم لصالح المغرب وانتهاء النزاع على الصحراء لصالح أصحابها الشرعيين.

الدنيا مصالح، وبلا شك فأمريكا أستاذة علم المصالح وتعرف أكثر من غيرها أن مصالحها في المنطقة مع المغرب أساسا، مثلما يعرف المغرب كيف ومع من يدافع عن مصالحه، وهذا حقه الطبيعي.

للقرار الأمريكي طبعا ارتدادات على الجزائر وتابعتها البوليساريو اللذين لم يعد أمامهما سوى التسليم بالأمر الواقع والتعايش معه. ومن دون شك فقصر المرادية يعيش منذ يوم أمس أكبر تخبط في حياته، هو الذي عاش وتعيش على أسطورة “العدو المغربي” و “حق تقرير المصير”. يتخبطون فيما الشعب الجزائري الشقيق يقاتل من أجل تقرير مصيره هو مع عصابة عسكرية متحكمة لم تسمح له حتى بمعرفه مصير رئيسة المختفي منذ شهر ونصف.

يتساءل فقهاء القانون الدولي والعارفون بالحياة السياسية للمؤسسات الأمريكية عن مدى قوة “إعلان ترامب” مبدين غير قليل من التخوف أن يأتي الرئيس الجديد بايدن فيمحو نهاره ما قرره ليل ترامب، مثلما شطب ترامب على قرارات كان سلفه أوباما قد اتخذها على عهده. وهي تساؤلات وتخوفات طبيعية بل مطلوبة في الحالة المغربية.

كما أنه ليس واردا أن العقل المدبر المغربي لم يطرح هذه الفرضيات ولم يضع لها حساباتها، ضمن خطة متكاملة قوامها حساب الأرباح المتوقعة والخسائر المفترضة.

تعتمد السياسة الناضجة على مبدأ “الأخذ والعطاء”. ومثلما أخذ المغرب هذا “الكارط” السياسي كان لزاما عليه أن يدفع. ولقد دفع المغرب لإسرائيل ــ وليس لأمريكا ــ ما طلبت.

دفع المغرب موقفا/ورقة عنوانها: التطبيع. هكذا تبدو الأمور عند القراءة الأولى. لكنه ليس تطبيعا بالمعنى الخليجي. كيف؟

ببساطة، كل ما صنعه المغرب أمس هو إعطاء عنوان لوضع قائم منذ عقود: الاتصالات مع الجانب الإسرائيلي لم توقف يوما وتنقل اليهود المغاربة من فلسطين المحتلة إلى المغرب لم ينحسر يوما وحتى المبادلات التجارية ظلت نشطة.

ولقد صنف المغرب من قبل ثعلب السياسة الأمريكية هنري كسنجر على رأس الدولة العربية المعتدلة منذ سبعينيات القرن الماضي، في أوج الصراع العربي مع كيان الاحتلال.

إذن نحن إزاء وضع قديم المستجد فيه هو “الإعلان”، وهذا ما يقوله بلاغ الديوان الملكي ويصرح به وزير الخارجية بوريطة.اي ليست هناك مقايضة اعتراف أمريكي بتطبيع.

وحتى فتح مكاتب اتصال بين الطرفين ليس أمرا جديدا، على اعتبار أن تلك المكاتب كانت واقعا منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي: أغلقت لظروف خاصة واليوم سيعاد فتحها.

أين الجديد في هذا؟ لا جديد.

إن الذي حصل أمس لن يمر بهدوء على المغرب الذي سيدخل معارك شرسة لتسويق الموقفين معا لصالحه، وستكون الرباط ملزمة بخوض سجالات رأس حربتها الإعلام لكسب التالي:

ــ سيلعب الخصوم على فكرة أن المغرب طبع مع الصهاينة المحتلين لتبرير “احتلال أرضه”، وهي مفارقة مضروبة من أساسها لو وجدت المحامين الفطنين.نعم نحن محتلون ومستعمرون لأرضنا كلها.

ــ سيقولون إن المغرب الذي يرأس ملكه لجنة القدس باع القدس وفلسطين من أجل الصحراء. ولابد أن يجدوا في المغاربة من له الفصاحة والبيان الكافيين ليبين لهم أن فتح قنوات اتصال يكون حتى مع العدو في زمن الحرب، وأن الأمر قد يسمح بتموضع أفضل لخدمة أفضل للحق الفلسطيني.

وليست الدولة الفلسطينية إلا وسيلة للحصول على حق الإنسان المقتل المجوع المهجر. والمغرب لم يحد عن الوقوف إلى جانب الصف الفلسطيني لنيل حقوقه عبر حل الدولتين، وهو ما يفاوض من أجله الفلسطينيون أنفسهم منذ توقيع اتفاق أوسلو.

ــ سيقولون إن الموقف المغربي انتهازي. فلا بد أن يجدوا من يفهمهم أن موقف المغرب واقعي براغماتي يقطع مع أوهام الوحدة العربية التي لا أثر لها في “جامعة الخلافات العربية” ولا باقي أندية العربان الخربانة. ولقد كان سلوك ملك المغرب واعيا ومبدئيا وذكيا حين اتصل بالرئيس الفلسطيني أبو مازن مباشرة بعد أن انتهت مكالمته مع ترامب ليضع محمود عباس في السياق ثم أتبع الاتصال ببلاغ مسؤول وملزم من الديوان الملكي.

 ــ بدأ الحديث عن فخ ترامب للمغرب، على فرض أن المزاج الأمريكي قد يتغير غدا وتعود قضية الصحراء إلى المربع الأول، وهنا لا بد أن تعي الآلة المغربية ما تقول في ردها:

أولا، المزاج الأمريكي ثابت جدا حينما يتعلق الأمر بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية الراسخة، فهمها تعاقب الرؤساء فالمصالح باقية.

ثانيا،ليست هناك هدايا مسمومة ولا فخاخ في الطريق مادامت الخطوات المتسارعة الأخيرة كلها في صالح المغرب الذي لن يحتسي أي كأس وكأنه أعمى.

رابعا، إن تقلبت الرياح ستتقلب معها الرباط، وكما فتحت مكاتب الاتصال وأغلقت قد تغلق عقودا أخرى إن تطلب الأمر ونبقى أسياد أنفسنا في القرارات السيادية.

لم يكن القرار المغربي ليسيل كل هذه البحار من المداد لو كان تافها ضعيفا أو عاديا. لكن قرار غير عادي بالمرة، فهو مثل التدخل الجراحي يكون مؤلما بالضرورة لأطراف الجسد.

لقد اتخذ الملك هذا القرار الجريء ضمن خطة مدروسة لها مداخل وبلا شك تتوفر على مخارج في حال نشبت الحرائق. فمن يخطط للحرب يضع في الحسبان خطة الانسحاب في الوقت الحرج. وعموما لابد من هامش للمغامرة، فمن يضع كل الحسابات لا ينجز بطولة.

وسيعطي المغرب للبطولة معناها العملي في حال استمات في الساحات التالية وبلا هوادة:

ــ ابتكار سبل جديدة لدعم الحق الفلسطيني رسميا وشعبيا

ــ عدم تمكين الإسرائيليين من جميع الأوراق واللعب معهم وفق مقتضيات المنطق اليهودي الذكي، فترك الحبل على الغارب مع الصهاينة غير مأمون بالمرة.

ــ اليهود المغاربة بفلسطين المحتلة قوة سياسية لا يستهان بها، وقد حان وقت استثمارهم، فللولاء المعلن من قبلهم ضريبة ملزمة تجاه المغرب.استثمارهم ليس كقوة “سياحية” بل كعامل سياسي حاسم في المعادلة الداخلية للكيان.

أعترف أن التطورات الأخيرة الحاصلة ليست كلها سارة وليست كلها سيئة. امتزج فيها الواقعي العقلاني بالإنساني العاطفي القومي. خلطة صنعت بهذه العناصر لتشرب كما هي أو تهرق كلها.

الجسد المغربي ملزم بشربها وامتصاصها، مع تحمل نتائجها ومضاعفاتها،والمعول على المناعة المكتسبة أن تمكن البدن الوطني من الانتفاع بعناصرها المغذية والتغلب على سمومها، تماما كما يتعامل مع الأدوية التي لها أعراض جانبية بعضها متحكم فيه والبعض الآخر قد يكون كارثيا.

 هذه قناعاتي حول موضوع متداخل مثل تداخل حسي الوطني بحسي الإنساني حيال فلسطين القضية التي ستبقى الامتحان اليومي للضمير الإنساني، ولن يصبح سكان الأرض بشرا ولن يستحقوا وسم الإنسانية مادامت الأرض الفلسطينية تهود وتجرف، وما بقيت للاحتلال وبشاعته ، والصهيونية وصلفها وعربدتها وطغيانها باقية.

دائما وكلما خيرت بين أمرين أختار أحدهما بلا تردد أو وجل، إلا في موضوع صحرائنا وفلسطيننا. أختارهما معا وبكل إصرار وعناد.

لماذا؟

 لأن القضيتين معا عادلتان لا تنفصلان.

بقي أمر مهم. هل سيغير الاحتلال نهجه بسهولة  ولين؟

مستحيل.

من سيقرر مصير فلسطين إذن؟

إن قرار مصير فلسطين النهائي ليس بيد الرباط ولا واشنطن ولا تل أبيب ولا في أي من عواصم الأرض، ولا بيد كل أهل الكوكب.

إن مصير فلسطين بيد العزيز الجبار عبر أضعف وأقوى مخلوقاته في الوقت نفسه: الطفل الفلسطيني.

ما دون هذه الحقيقة وهذا اليقين “سياسة” وحروب مصالح لها خططها وساحاتها وأهلها ومحترفوها. وفي هذا المربع بالضبط يحاول المغرب أن يلعب بلا أخطاء…وبمكاسب أكبر.

رفقا بوطنكم.لا تنسوا فلسطين.  

www.achawari.com

 

 

 

 

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد