مع اليوسفي…حكاية لقاء في السماء..وقضايا ساخنة على الأرض

أحــمد الجــلالي

 في صبيحة أمس الجمعة، عيد المؤمنين، رحل عن دنيا الناس هذه المرحوم عبد الرحمان اليوسفي، أحد شيوخ اليسار والعمل الوطني والسياسي. بالمغرب.

رحل في صمت بلا حشود تتبعه ولا وجوه كانت ستتسابق على كاميرا الإعلام الرسمي لتقول ذلك الكلام المسكوك المكرور، في كل مناسبة يرحل فيها الكبار، فيهرع الصغار خلف رفاتهم لرشف رحيق بعض القيمة المفتقدة عندهم طوال حياتهم.

رحل اليوسفي، ومن دون أدني شك، رحلت معه إلى متواه الأخير أسرار لم يقلها وما كان لـ”الصواب السياسي” أن يسمح له بقولها ولا حتى بتركها وصية مكتوبة للنشر بعد السفر الأخير.

رحل رمز ما سمي “التناوب التوافقي”، وبعده مباشرة أخرج الرفاق من أرشيفاتهم صورا معه وملأوا بها صفحات الفيسبوك، في حين كان الأجدى أن يملؤوا قلوبهم، والرجل بين ظهرانينا، بعد حب الله، بالمبادئ التي يقولون إن اليوسفي عاش ومات من أجلها.

 غادرنا اليوسفي، وشاء قدره أن يرقد جنبا إلى جنب مع الراحل قبله ،الوزير الأول عبد الله إبراهيم، في “صدفة” لها معان إيمانية كثيرة، لكن كثيرا من “المومنين” لم يقرأوا المشهد، بل قرأوا “أحسيفة” في رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران ليشبعوه شتما بقدر ما أشبعوا الراحل مديحا وإطراء.

لا أفهم كيف يجتمع في نفس اللسان، ولذات المناسبة الحزينة، قدرة على الخشوع والترحم ومعها سلاطة لسان ووقاحة لا نظير لها. إن لـ “تاحزباويت” أمراضا، ولأمراضها أعراضا وفيروسات تنتقل وتفتك وتتجدد أكثر مما يصنع الفيروس  المستجد.

فيا حواريي المرحوم اليوسفي الرجل الخلوق، هل من الأخلاق الإنسانية في شيء أن يجتمع الترحم واللعنات في يوم واحدوعلى لسان واحد؟ فما كان الراحل شتاما ولا لعانا..أليس إكراما الله التأسي بخصاله؟

 صحيح أن اليوسفي اعتزل السياسة منذ سنوات، لكنها هي لم تعتزله، وهاهو حتى في يوم رحيله يشغل الرأي العام،ويصبح موضوعا للمقارنات والتذكر..والتمني والاسترجاع…مع غير قليل من المزايدات المبطنة.

 رأيت في مشهد دفنه أمورا مختلطة:

ــ تفاهة الحياة البيولوجية وحقارتها وطينية مكانتها في نهاية الأمر. كل ما من تراب.. إلى تراب.

ــ نحن لسنا الـ”نحن” كما نظن، لأن ماهيتنا الحقيقية هي ما نترك من المجردات القيمية والمعنوية، أي ذلك الأثر الممتد في الزمكان.

ــ دفن السياسة أو ما تبقى منها في السياق المغربي.فاليوسفي ومن هم من عياره يعدون على أصابع اليد الواحدة، ومع ترجل أي منهم يكون فصل سياسي حقيقي قد أغلق قوسه إلى الأبد.

ــ رحيل اليوسفي يتزامن مع مسارعة أبناء الاتحاد، كل من موقعه، إلى هدم ودك آخر ما تبقى من حصون رصيد حزب “القوات الشعبية” عند الشعب.  يتسابقون إلى هذا التدمير المحموم بكل الجنون اللافت للفجيعة.

 أثارني الكم الهائل لصور رفاق اليوسفي وعامة الناس معه، وسيل اللقطات التي يبدو وكأن أصاحبها كانوا يحتفظون بها لهذا اليوم تحديدا. كل من له صورة تذكارية مع الراحل كأنما يريد أن يقول للعالم ها أنذا مع اليوسفي، إني أنتمي إليه أو لنقل: إنه ينتمي إلينا جميعا.

 تذكرت بدوري أرشيفي “السياسي” المصور. وجدت أن لي أيضا صورة مع اليوسفي لكنها تختلف عن كل الصور التي نشرها القوم اليوم، لأن  من “ميزات” صورتي أنا مع سي عبد الرحمان أن اللقاء به كان في السماء ولم يكن على الأرض، وأنه كان اللقاء الأول… والأخير.

 سأشرح قليلا.

قبل عشرين سنة تقريبا، كنت ضمن رحلة إلى العيون متوجها جوا إلى الصحراء المغربية لمناسبة تزامنت مع ثامن مارس، وكان الوزير الأول ضمن الرحلة.

كان يجلس في مقدمة صفوف مقاعد طائرة البوينغ، في ذلك المكان المحفوف بالستائر المخصص عادة للشخصيات الرسمية، وكنت خلفه بمسافة ضمن الركاب. كان صحافيون كثر على متن الطائرة ومواطنون آخرون. لهم صلة بالمناسبة أو يقطنون العيون أصلا.

لما صعدت قبل الإقلاع رأيت اليوسفي على اليمين بالمقدمة، حييته بإيماءة ومضيت مسرعا إلى مقعدي. كان بإمكاني أن أصافحه لكني لم أفعل لسببين:لست من هواة التسابق على مصافحة المشاهير لأن فيها تملقا وتنقيصا من الذات الإنسانية، فلست بهم أكتمل وليسوا من دوني ناقصين. ثم إني أفضل ألا أزعج الناس، كبر مقامهم أم صغر.

 انهمكت في قراءة كتاب “عالم بلا خرائط” لعبد الرحمان منيف حيث أنستني تفاصيله المؤلمة المكان والزمان معا، وتهت بين ذلك العالم الإبداعي الأخاذ عن أهوال السجون السياسية والتعذيب بشرق المتوسط المريض أبدا بالدكتاتورية والفرعونية.

 أقلعت الطائرة وشددت الحزام ثم خففت من قبضته، وبعد حوالي نصف الساعة استشعرت عيني اليسرى ظلا فوق  رأسي تماما، فظننت أنها مضيفة الطيران جاءت لتقوم بالواجب.

لم يكن الظل للمضيفة ولا لأي مسؤول عن الرحلة. كان اليوسفي شخصيا يسعى بين الركاب ليسلم عليهم جميها. وقفت ووجدت أمامي وجها مبتسما يشع نورا وتواضعا. صافحته بحرارة مكبرا فيه ذلك التواضع غير المتكلف وهو يأتي إلى المواطنين واحدا واحدا.

أتذكر أني قلت له: مرحبا سي عبد الرحمان، اش خبارك؟ وأن جوابه كان بصوت خفيض متعب قليلا: الحمد لله وأنت؟

ــ كلشي بخير، بارك الله فيك.

ثم واصل المرحوم طوافه على الركاب وأنا أتابعه بعيني مستحسنا ما يقوم به.

مرت سنة تقريبا، وكنت قد رحلت عن جريدة “الصباح” وأصبحت اشتغل بالمرحومة يومية “الجمهور” التي اغتالتها أيادي “التفليس” لاحقا.

كنت في بوابة محطة الرباط المدينة زوالا، أسعى إلى غرض ما قبل أن أسمع صوتا نسائيا هادئا يناديني: جلالي..جلالي.

التفت فإذا بها الزميلة المقتدرة، المصورة الصحافية زليخة من يومية “الاتحاد الاشتراكي”. سلمت على زليخة ولم أكن قد قابلتها منذ مدة.

وبعد حوار قصير، رأيتها تتلمس حقيبتها ثم أخرجت لي شيئا يخصني. كنت أنتظر ذلك “الشي” الذي تخرجه بعناية كأنها تساعد برفق كتكتا لكي يفقص من بيضة بكل أمان.

ناولتني جسما مستطيل الشكل يبدو من ورق مقوى. كان  ملفوفا في مظروف أبيض جديد. فتحت ما ناولتني وهي ترقبني كأنها تنتظر ردة فعلي.

وجدت صورتي مع اليوسفي  ــ التي ارفقها مع هذه المقالة ــ مؤرخة بتاريخ العاشر من مارس من سنة واحد وألفين ميلادية: أوووه …شكرا زليخة هذه مفاجأة حقيقية ..شكرا لك.

ولأن زليخة، المغربية الريفية مهنية من طراز رفيع فإنها تتمتع بحب لا يوصف للمهنة التي تمارسها بشغف قبل أن تكون وظيفة لها.

ولو كان غيرها لما اهتم بالاحتفاظ لي ولغيري تطوعا بتلك الصور الرائعة. وبقدر ما وثقت عدسة زميلتي لصور تاريخية بلا حصر في مناسبات عدة، هاهي تمنحني اليوم في هذه اليوم فرصة توثيق تاريخ شخصي صغير.

 مرة أخرى، شكرا زليخة ورحم الله اليوسفي وسائر من ودعونا على درب الحق والنضال وحب الخير.

WWW.ACHAWARI.COM

 

 

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد