“يوميات كوورنا” /14 ثانوية مولاي رشيد ـ بلقصيري: خواطر تلميذ قيل إنه مجتهد

أحمد الجــلالي

 بادر أصدقاء إلى إطلاق صفحة على “الفيسبوك” سموها “ملتقى قدماء تلاميذ و أساتذة  ثانوية الأمير مولاي رشيد مشرع بلقصيري”، وهي مبادرة جميلة مشكور أصحابها، فقبلت مسرورا دعوتهم لي بالانضمام وقدمت نفسي في أول تعليق كالتالي: ” أحمد الجلالي كاتب وصحافي..من أكسل التلاميذ الذين مروا بثانوية مولاي رشيد أواخر ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن العشرين”.

 ولقد بدا وصفي لنفسي بـ” أكسل التلاميذ” غريبا للبعض، فيما حاول آخرون “الرفع من معنوياتي” وأن الفشل في مرحلة لا يعني الكسل. أشكر الجميع وأضيف أني في واقع الأمر ما رضيت يوما عن أي من إنجازاتي لا الأكاديمية ولا المهنية ولا في مجال الكتابة الإبداعية لأسباب كثيرة لعل أهمها أني أغلق باب الاغترار نهائيا وأبقي باب التحليق في آفاق أخرى مفتوحا على مصراعيه.

 أقول هذا ليس تواضعا مني ولاتكبرا ، فأنا لست متواضعا بالمعنى الخانع، ومقابله لا أحب التكبر مطلقا بمفهومه المتعالي المرضي، إنما أبغي منزلة متوازنة بين المستويين.

 أعود إلى فكرة الصفحة لأقترح على أصحابها وضع ميثاق لها يكون ملزما لجميع قدمائها من التلميذات والتلاميذ خصوصا: فنحن في النهاية لن تعلو حواجبنا على أعين من درسونا وربونا، فلهم الاحترام والتقدير والكلمة الأولى، ولنعتبر أنفسنا تلاميذ كبروا أمام أساتذة لنا أكبر منا نجلس أمامهم بانضباط ومحبة في أقسام صارت افتراضية.

كما أحب أن أقترح التفكير من الآن في كيفية تطوير الفكرة بحيث تخرج إلى الواقع الحقيقي في شكل ناد أو منتدى أو جمعية ذات أهداف واضحة ومحددة قوامها الروح الإنسانية والتضامن والإشعاع بين كل من مروا بمولاي رشيد.

جميل أن نسترجع الذكريات في إطار “كان يا ما كان” ولم يقل عنه جمالا أن نشتغل في اتجاه “الذي يمكن ويجب أن يكون”.

 ثانوية مولاي رشيد بمشرع بلقصيري، ولي بهذه المدينة وشائج أقوى من غيرها في أي من بقاع الدنيا، ففيها قضيت سبعة أعوام فاصلة بين الطفولة ومتصلة بنهاية المراهقة ودخول فترة الشباب. ومهما حصلت على إقامات أو انتماءات هنا أو هناك أظل محسوبا على “عمل بلقصيري” و”الديور جداد” و “بام”.

 أما الثانوية التي قضيت بها ثلاث سنوات فأبقى ما حييت مدينا لها بما لست مدينا به لأي من المعاهد والجامعات التي مررت بها. ففي “مولاي رشيد” كان الأساس الفكري والشخصي قد وضع، وما أتى بعده كان استكمالا لبعض الجوانب.

ليس في الأمر ذاتية ولا محلية مفرطة فأنا أقص عليكم خلاصات تجاربي الميدانية:

ففي الجامعات لم أعثر على أساتذة بقيمة وشخصية ونضج من درسوني بهذه المؤسسة، والمدرسة بأهلها لا بفصولها ولا بزخرف بناياتها. وحين أتذكر مؤسستي الحلوة هذه فإن وجوها وأصواتا تقفز إلى ذاكرتي ذكرياتي طرية كأنها بنت الأمس، وإليكم أمثلة على هذا:

 ــ ليس سهلا أن تجد أستاذا يحقق من النجاح في مادة فكرية/إسلامية/تربوية مثل  سي عبد السلام الشرقي..ومن كانوا تلاميذه لا أظن أنهم سيخالفونني الرأي.ومعه أتذكر دائما الأستاذ  الأنيق المتمكن عبد الواحد الهسكوري، وبفضله اطلعت مبكرا على أهم المدارس الفكرية في العالم،حيث كنت نهاية كل عام دراسي أتزود من مكتبته بأمهات الكتب القيمة.

ــ ليس بالمتاح دائما أن تعتر على أستاذات مثل مرشد جمعة و مليكة الطاهري شخصية وتمكنا بيداغوجيا في مادة الفلسفة، حيث يخرجان من النص الفلسفي ما لا تتوقعه ومنك أيها الطالب أحسن ما في عقلك.

ــ ليس سهلا أبدا أن تجد في أي مكان إطارين من قبل لالة فاطمة الحداد وسيدي لحسن أبو نيدان في مادة التاريخ والجغرافيا قدرة وصبرا على العرض والإفهام وإنجاح وتكوين المتلقين. لن أنس ما قاله لي أبونيدان: “يلا كان التلميذ ممتاز في الاجتماعيات فلا خوف عليهم فهو قادر على النجاح في أي تخصص اختاره”، وقد صدق.

ــ يقينا، لم يعد ممكنا أن تخرج لنا معاهد التكوين بسهولة وجوها مثل المرحوم سي قاسم لخليفي في مادة الفرنسية حيث كان عليه الرحمات ــ ومثله سي الجاري ــ يتمتع بقدرة هائلة على التدريس بهدوء حتى تحقق الحصة أهدافها.

ــ بلا شك، سي رشيد الحص لا قبل لأي ممن رأيت من أساتذة اللغة الإنجليزية بمهاراته في أن يطوع لسانك بشكل علمي على تحدث اللغة الأقوى في العالم، ودفعك لضبطها كتابة ونحوا.. وأنا مدين للرجل برصيدي اللغوي الأنجلوفوني نطقا ونحوا وتعبيرا، وأحب أن أبلغ سي رشيد أن من عاشرتهم أو اشتغلت معهم من البريطانيين لاحظوا الفرق ولقد شرحت لهم السبب فعظموا لك السلام. كما لم يسقط من البال اسم الأستاذة ماجدة المحبوبة الأنيقة أسلوبا وتعاملا وتدريسا.

 ــ لم يكن توجهي علميا لكني عشقت مادة العلوم الطبيعية بفضل سي محمد أجليان، فلا يعرف قدره ومقدراته العلمية والتكوينية إلا من كانوا تلاميذ له بالجناح العلمي الذي كان يتمتع بهيبة خاصة. وكلما تذكرت سي أجليان إلا أحسست بالأسف كوني لن أصير طبيبا أو باحثا في مختبر علمي بحكم سياسة الدولة التي قطعت طريق كلية الطب على “الأدبيين”، لكني كنت أحرص على الاستفادة من دروسه العلمية التي كرست لدي وعيا خاصا، وبلغ من حرصي أن معدلاتي وصلت مرات إلى تسعة عشر من عشرين وراهنت نفسي مرة أن تكون عشرينا من عشرين فكانت.

ــ لم تكن علاقتي بالرياضيات طيبة، فقد كرهت أسلوب تدريسها الجاف، إلى أن درستي الاستاذ الفاضل سي خالد العلالي ذات سنة فاكتشفت عبر أسلوبه الجدي العلمي المناضل أن الرياضيات ليست مجرد رموز ومعادلات وأرقام جافة بل طريقة تفكير ومنهج تفكير. لقد درسنا فلسفة علوم لا تقل شأنا عما درسه الفيلسوف طه عبد الرحمان لطلاب الرياضيات سلك الدكتوراه.

ــ أشعر بالحزن أن فصيلة من مدرسي العربية ــ اللغة الأحب إلى القلب ــ من عيار الأستاذة المحفوظي والأستاذة تفخارت والأستاذ أمزيان والأستاذ الأيوبي صارت شبه منقرضة.

فمعهم تذوقنا حلاوة ومرارة النص الأدبي النتري والشعري، وتفقهنا في تحليل النص والاستماع إلى أصواته الداخلية. مازلت أحتفظ بأرشيف النتائج في كل المواد ومنها العربية التي طبقت علي فيها المحفوظي “الباريم” كما هو فكانت نتيجة الدورة الأولى تسعة عشر من عشرين والثانية “عشرين على عشرين”، وبفضل هؤلاء قررت ألا أختار العربية تخصصا لأني كنت امتلأت كفاية ويمكنني أن أواصل بذلك المستوى دون حاجة إليها كتخصص جامعي.

 وحين أتحدث بهذا عن “مولاي رشيد” فلا يجب أن أنسى ولا بأي حال من الأحوال أمنا “ابن بصال” تلك المؤسسة العتيقة التي كانت المشتل السابق ومنها أتينا إلى الثانوية، ولا يغيب من البال أبدا أساتذة كرام باقون في الذاكرة منهم: سي الجيلالي المنصوري وسي عبد اللطيف لفراني وسي الحسين بنمنصور وسي أحمد الكرفطي وسي لعريبي وسي إبراهيم السحلي وسي الصروخ والأستاذة شادية وسي الدبدوبي وسي بحطاط  وسي عبد الرحيم هدي والأستاذة بينوة وسي التيس وسي حسن القنطري وسي الروكي الجيلالي..وطائفة أخرى من الإداريين مثل سي بزاح وسي العلمي وسي البشير..كلهم رعونا رعاية الآباء والأمهات أحسن الله إليهم ومتعهم بالعافية.

  يجب أن نعترف نحن خريجي الثمانينيات والتسعينيات أن أساتذتنا صنعونا علميا وشخصيا وأنهم أرسلونا للتعليم العالي قنابل من طاقات جاهزة للإنتاج والتألق وأن من فشل منا أو لم يصل إلى حيث كان ينبغي فلظروف أخرى وليس لنقص في تكويننا.

“مولاي رشيد”  وبلقصيري هما عندي مكان وعواطف وذكريات ووجوه، ولقد حرصت أن تبقى الصلة بها قائمة ما أمكن، غير أني ولشديد أسفي طوحت بي الصحافة شرقا وغربا وتقطعت الزيارات ثم قلت كثيرا، وحتى في بعض الفرص القليلة التي كانت تتاح كنت أحتال على “الوقت” فأذهب إلى الثانوية متخفيا ببرنيطة أو ما يستر الرأس ــ وكأني محقق ــ أطوف بأطرافها والتقط صورا وكلي حذر أن أصادف مدرسا سابقا لي لسببين:

السبب الأول أني على عجلة من أمري واللقاء لابد أن يتحول إلى زيارة هي دين علي، ولا يجب أن تقل عن يوم…وهو ما يعد في زحمة الحياة ومهنة قاسية “عطلة حقيقية”.

السبب الثاني، ولفرط الاحترام والتقدير الأبوي لأساتذتي كنت أخشى أن اضبط وبيدي لفافة تبغ كمدخن “مجاتش معاه” فأصدم بعض من لم يتصوروا أن ذلك التلميذ المثالي صار مدخنا. أخبركم أحبتي أني إن خيبت أملكم يوما فلقد استجمعت ما تعرفون بتلميذكم “المجتهد” من تحد وعزيمة ورفست على علبة التبغ ثم أقلعت عنه إلى غير رجعة منذ سنوات.

عذرا إن سقط من عنقود هذا السرد إسم ما سهوا، فكلكم جواهر في سوار القلب مادمت حيا. حياكم الله جميعا.

 

www.achawari.com

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد