التايب في قراءة متأنية: تأكد إذن صواب الرأي برفض مشروع القانون 22.20

بقلم : يونس التايب

بعد أن تنصل جميع من صادقوا على مشروع قانون رقم 22.20، “المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة”، أعتقد أن كل الملاحظات والانتقادات التي تفجرت في صفوف الرأي العام كانت صائبة بشكل كبير، و أبانت عن نضج سياسي عالي ويقظة مجتمعية لا تساوم على الحق في الرأي والتعبير باعتبارها مكتسبات حقوقية مغربية أساسية.

 ولعل أكثر ما بدى أنه يدعو إلى الاستغراب هو تنصل الأغلبية الحزبية المساندة للحكومة بشكل مطلق من مشروع القانون، بل و قيام بعض من صادقوا على نص المشروع بمطالبة الحكومة بالتراجع عنه، كما لو أن من صادقوا عليه أشخاص آخرون وليسوا هم، أو أنهم لم يكونوا يمثلون أحزابهم في شيء عندما صادقوا. وإذا كان ذلك مدعاة للاستغراب، فهو يدل، أيضا، على غياب الإرادة في تحمل المسؤولية السياسية بشأن ما جرى. و هو ما يزيد من تأكيد الارتباك الواضح الذي ميز تعامل الفاعل الحكومي، و طبع تواصله السياسي، بشأن مضمون مشروع القانون، و عدم استطاعته تزويد المواطنين بأجوبة واضحة عن الغرض الذي كان يهدف إليه نص مشروع القانون، والجهات التي دفعت في اتجاه إصداره، ما دام من صادقوا عليه تنكروا له.

 و تبقى لنا ملاحظاتنا التي لا يجب أن ننساها بخصوص مشروع القانون المثير للجدل، و لنا تساؤلاتنا عن ماهية ودواعي تحريك مشروع كهذا في توقيت دقيق و حساس كالذي نحن فيه. ولعل أول الملاحظات، هي تسجيل عدم احترام مشروع القانون 22.20 لمقتضيات الدستور و ما فيه من تنصيص واضح على حقوق وحريات مكفولة لمواطني المملكة المغربية.

 والسؤال المترتب عن هذه الملاحظة هو لماذا صاغت الحكومة نص قانون يتعارض مع مقتضيات دستورية أساسية، و هي تعلم أن ذلك الأمر سيؤدي إلى جدل كبير في المجتمع بكل أطيافه، و أن التصدي له لا محالة سيقع، بما يعنيه ذلك من دخولنا في حالة من التجاذب وهدر كبير للطاقات، في ظرف زمني نحن أحوج ما نكون فيه إلى وحدة الصف الوطني و التركيز على الأولويات الاجتماعية والاقتصادية لإنجاح معركتنا ضد الجائحة الوبائية؟؟ أم أن هنالك من اعتقد أن المواطنين لن ينتبهوا للأمر و ستقضى الحاجة و الناس غافلون؟؟ أو أن المغاربة، و هم منشغلون بأخبار كورونا، قد ينسون أن يعضوا بالنواجذ على المكتسبات المؤسساتية والدستورية التي تنعم بها بلادهم، وهي الكفيلة بأن تجعلهم يمضون بتفاؤل في ترافعهم ضد كل قانون يرون فيه تراجعا عن الحقوق المكفولة دستوريا؟

 ثاني الملاحظات، هي تسجيل مصادقة مجلس حكومي على “نص مشروع القانون”، و في نفس الوقت الحديث عن أن “لجنة تقنية، ثم لجنة وزارية، ستقوم بدراسته وأخذ الملاحظات المثارة بشأنه بعين الاعتبار” في أفق تصحيحه، بينما كان الأصوب هو أن لا تصادق الحكومة على مشروع القانون، ما دامت ترى أن مواده تثير ملاحظات وانتقادات من طرف بعض مكوناتها، و أن تقرر تأجيل البث فيه إلى حين “إعادة دراسته من طرف لجنة تقنية، ثم لجنة وزارية، وإعادة صياغته مع أخذ الملاحظات المثارة بشأنه”.

 أما الملاحظة الثالثة، فهي المرتبطة بالمواد التي تركز حولها التنديد والانتقاد في “مسودة” مشروع القانون، و هي أساسا ثلاثة مواد : المادة (14) التي تدين من قام “بنشر محتوى إلكتروني بالدعوة إلى مقاطعة بعض المنتوجات أو البضائع أو الخدمات أو القيام بالتحريض على ذلك”؛ والمادة (15) التي تدين من قام “بنشر محتوى إلكتروني يحمل العموم أو تحريضهم على سحب الأموال من مؤسسات الإئتمان أو الهيئات المعتبرة في حكمها”؛ و المادة (18) التي تدين من قام “عبر شبكات التواصل الاجتماعي أو عبر شبكات البث المفتوح أو عبر الشبكات المماثلة، بنشر أو ترويج محتوى إلكتروني يتضمن خبرا زائفا من شأنه التشكيك في جودة وسلامة بعض المنتوجات و البضائع و تقديمها على أنها تشكل تهديدا وخطرا على الصحة و الأمن البيئي”.

 وهنا لا يمكن لكل من حاول أن يفهم المنطق الذي تأسست عليه تلك المواد، أن يمنع نفسه عن استحضار ما كان من ذكرى حملة المقاطعة الشهيرة التي عرفتها بلادنا، قبل أشهر، ضد بعض المواد و الشركات. والسؤال هو هل علينا أن نستنبط أنه كانت هنالك فعلا خلفية تربط بين الأمرين، “نص مواد مشروع القانون” و”حملة المقاطعة”؟ لماذا يا ترى ذلك ؟ و كيف يعقل أن تكون الأمور على ذلك النحو؟

 إذا افترضنا تلك الخلفية، أليس فيها نزع لكل مسوغ موضوعي عن مواد مشروع قانون الأصل فيه، باعتبار طبيعته، أن يحمي المصلحة العامة للناس، لا أن يوضع تحسبا لتدبير مصلحة خاصة تهم أنشطة ربحية ومصالح ذاتية لأفراد قد تتعرض الانتقاد و المقاطعة مستقبلا ؟؟ أليس ذلك كاف لجعل كامل مشروع القانون، عرضة للانتقاد بالنظر إلى الطابع غير الموضوعي لبعض مواده، ومضمونها غير المسبوق في أي قانون مماثل في دول ديمقراطية أخرى؟؟ كيف لم يطرح من صاغوا ذلك النص كل تلك الأسئلة على أنفسهم قبل أن يقعوا في هذه الزلة؟؟

 كيف اعتقد كاتب نص مشروع القانون المثير للجدل أنه يمكن أن نسمح لأشخاص أو شركات أن تنشر محتوى إلكترونيا يروج لبضائعها ومنتوجاتها وخدماتها، تدعو فيه الناس إلى الإقبال عليها وشراءها، في إطار استراتيجية الماركوتينج الرقمي والتسويق للشركة المعنية، ثم نأتي بقانون يمنع استعمال “نفس الوسائط التواصلية” لنشر خطاب معاكس، قد تكون الحاجة إليه مبنية على تصور اقتصادي صرف، أو على تحليل تجاري معقول ينتقد تلك الخدمة أو البضاعة أو المنتوج، و لأصحاب هذا الرأي كامل الحق في التعبير عنه في إطار ضوابط القانون عبر وسائط التواصل الاجتماعي؟؟؟

 كيف لم يتم الإنتباه إلى أننا و نحن نفكر في سبل تقوية وتشجيع الإقبال على المواد المغربية، كحل من الحلول لتخفيف الأثر الإقتصادي للأزمة الوبائية، سنضع في مأزق، بقانون كهذا، كل من يريد غدا أن ينخرط في حملات ترافعية لمناصرة الاقتصاد الوطني وتشجيع استهلاك المنتوجات المحلية، حيث سيكون عليه أن يخشى من الحديث عن “الجودة” كمفهوم و كشرط لتشجيع الاستهلاك، وعليه أن يخشى ذكر منتوجات وخدمات بعينها، وعليه أن يبتعد عن تشجيع بعضها والتموقف من بعضها الآخر، خوفا من المسائلة القانونية و من المتابعات المحتملة؟؟

 كيف لم ينتبه من يتحمل المسؤولية السياسية في الإتيان بنص مشروع القانون، إلى غياب أي منطق في أن نطلب من زبون اشترى منتوجا معينا من ماله الخاص، وتولد لديه موقف سلبي منه بعد أن لم تعجبه جودة المنتوج، أو اكتشف أن الإشهارات بشأنه كاذبة، أو أن الثمن مرتفع و مبالغ فيه، أو وجد ضمن مكوناته مواد كيميائية أثبتت دراسات عليمة أثرها السيء على صحة الإنسان، أن لا يعبر عن كل ذلك و أن لا يستعمل في ذلك التعبير وسائط التواصل الاجتماعي ؟؟

 كيف لم ينتبهوا إلى غياب أي منطق في أن نجيز للشركات أن تقوم بإشهار موادها، عبر وسائط التواصل الاجتماعي، و نمنع الزبناء المستهدفين من حقهم في الرد والتفاعل واستعمال نفس الوسائط الاجتماعية في ذلك، في زمن التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي؟؟

 كل تلك الملاحظات و التساؤلات تحيل إلى احتمال كبير بأن وراء قصة المواد 14و 15 و 18، حسابات لا علاقة لها بالمنطق الاقتصادي و التجاري، و لا بأساسيات حرية الرأي والتعبير المكفولة دستوريا. و لو أن المنطق الذي تأسست عليه تلك المواد كان موضوعيا صرفا، بعيدا عن أية حسابات أخرى، لكان حريا بمن أبدع مسودة مشروع القانون 22.20، أن لا يضمنها كل ما له خصوصية تجارية تندرج ضمن قواعد التنافس الاقتصادي الحر، يمكن أن يحتكم بشأنها الفرقاء إلى القانون التجاري، أو إلى قوانين أخرى تجيز لكل شركة تعتبر نفسها متضررة من حملة تحريضية لا تحترم شروط المنافسة، أو فيها ما تعتبره إساءة إلى صورة الشركة و إلى رأسمالها الرمزي و سمعة العاملين بها، باللجوء إلى القضاء.

 أعتقد أنه كان يجب على الفاعل الحكومي التركيز على الأوراش التي لها الأولوية بدل إضاعة الطاقة والوقت في “إبداع” مشروع قانون لا أهمية له في هذه المرحلة، والمخاطرة بما من شأنه التأثير على التركيز الواجب لاستثمار الروح التي أبان عنها الشعب المغربي، وكل القوى الحية للأمة، من خلال الاصطفاف الوطني وراء عاهل البلاد، والسعي لتنفيذ توجيهاته الاستراتيجية لتدبير ملحمة التصدي للجائحة الوبائية بنجاح، و نشر الطمأنينة و تشجيع الناس على الصبر وتعزيز وحدة الصف.

 من المؤكد أن اللحمة الوطنية الاستثنائية التي أبانت عن قوة و عراقة الدولة المغربية، قيادة و شعبا، أزعجت الكثيرين في الخارج و الداخل، و قلبت حسابات البعض رأسا على عقب، وجعلتهم يبحثون عن “بث السم في العسل” من خلال خلق مساحات تشكيك و ارتياب تؤثر على الثقة التي ترسخت بين السلطات العمومية والمواطنين، للسير بنا بعيدا عن ما ثبت أنه سر قوتنا وسبيلنا لتنهض الأمة المغربية بعد هذه الأزمة وتصمد أمام الرياح العاتية بمحيط دولي معقد وشرس.

 لذلك أقول أن علينا أن لا ننسى أننا لا زلنا في قلب المعركة الأساسية، ألا وهي معركة حفظ الأرواح وتقديم الدعم الاجتماعي للفئات الهشة، ودعم الاقتصاد الوطني حتى نصمد إلى النهاية في مواجهة الوباء الفيروسي. وهي معركة طويلة و لا أحد يمكنه تأكيد تاريخ توقف تداعياتها، حتى لو خرجنا من مرحلة الحجر و حالة الطوارئ الصحية. وعليه، نحن مدعوون جميعا إلى استحضار أن الذي يجب أن ينتصر هو الوطن و لا شيء سواه، و المطلوب هو تدبير الملفات الهامة بهدوء الواثقين مما في نياتهم، المقدرين لشرف الإنتماء لوطن هو تاج رؤوسنا.

 وبالتالي، من العقل والحكمة، عوض الحديث عن تأجيل البث في نص مشروع القانون 22.20، أن نلغيه بشكل كلي من أجندتنا، كما نلغي أية مشاريع قوانين لا تعزز مكتسبات الوطن، و لا هي ذات طابع استعجالي، ولا هي ضرورية لتحقيق الانتصار في ما نحن فيه.

www.achawari.com


 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد